لِفَوَائِدَ وَمَحَاسِنَ قَلَّ أَنْ تَجْتَمِعَ فِي مِثْلِهِ مِنْ كِتَابٍ فِي الْعُصُرِ الْخُوَّالِ، أَسَّسْت فِيهِ مَا يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمَنْقُولِ، وَبَيَّنْت فِيهِ مَصَاعِدَ يُرْتَقَى فِيهَا قَاصِدُ النُّقُولِ، فَهُوَ لُبَابُ الْعُقُولِ وَعُبَابُ الْمَنْقُولِ وَصَوَابُ كُلِّ قَوْلٍ مَقْبُولٍ، مَخَّضْت فِيهِ عِدَّةَ كُتُبٍ مِنْ الْفَنِّ مُشْتَهِرَةٍ وَمُؤَلَّفَاتٍ مُعْتَبَرَةٍ، مِنْ شُرُوحِ الْكِتَابِ وَشُرُوحِ الْإِرْشَادِ وَشَرْحَيْ الْبَهْجَةِ وَالرَّوْضِ وَشَرْحِ الْمَنْهَجِ وَالتَّصْحِيحِ وَغَيْرِهَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَإِخْوَانِنَا السَّادَةِ الْأَفَاضِلِ الْمُعَاصِرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعِهَا، فَأَخَذْت زُبْدَهَا وَدُرَرَهَا، وَمَرَرْت عَلَى رِيَاضٍ جُمْلَةً مِنْهَا عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهَا، وَاقْتَطَفْت ثَمَرَهَا وَزَهْرَهَا، وَغُصْت بِحَارَهَا فَاسْتَخْرَجْت جَوَاهِرَهَا وَدُرَرَهَا، فَلِهَذَا تَحَصَّلَ فِيهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْفَوَائِدِ مَا تُبَتُّ عِنْدَهُ الْأَعْنَاقُ بَتًّا، وَتَجَمَّعَ فِيهِ مَا تَفَرَّقَ فِي مُؤَلَّفَاتٍ شَتَّى، عَلَى أَنِّي لَا أَبِيعُهُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَلَا ادَّعَى أَنَّهُ جَمَعَ سَلَامَةَ كَيْفٍ وَالْبَشَرُ مَحَلُّ النَّقْصِ بِلَا رَيْبٍ وَسَتَفْتَرِقُ النَّاسُ فِيهِ ثَلَاثَ فِرَقٍ:
فِرْقَةٌ تَعْرِفُ شَمْسَ مَحَاسِنِهِ وَتُنْكِرُهَا، وَتَجْتَلِي عَرَائِسَهُ وَتَلْتَقِطُ فَوَائِدَهُ وَكَأَنَّهَا لَا تُبْصِرُهَا، ثُمَّ تَتَشَعَّبُ قَبِيلَتَيْنِ خَيْرُهُمَا لَا تَنْطِقُ بِرُؤْيَتِهِ وَلَا تَذْكُرُهَا، وَالْأُخْرَى تَبِيتُ مِنْهُ فِي نَعَمٍ وَتُصْبِحُ تُكَفِّرُهَا
وَأَظْلَمُ أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ حَاسِدًا ... لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ
لَعِبَ بِهَا شَيْطَانُ الْحَسَدِ وَشَدَّ وِثَاقَهَا الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ بِحَبْلٍ مِنْ مَسَدٍ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَالشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْجَسَدِ، تَصَرَّفَ فِيهِمْ فَنَوَى كُلٌّ مِنْهُمْ السُّوءَ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وَتَحَكَّمَ فَغَوَى بِحُكْمِهِ مَنْ غَوَى وَجَرَى بِهِمْ فِي مَيْدَانِ الْحَسَدِ حَتَّى صُرِفَ عَنْ الْهُدَى.
وَآخَرُ مِنْ فِئَةٍ ثَانِيَةٍ يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَلَا يَفْهَمُهُ، وَيَسْبَحُ فِي بَحْرِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ، وَيُصْبِحُ ظَمْآنًا وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُفْتَقَدُ حُضُورُهُ إذَا غَابَ، وَلَا يُؤَهَّلُ لَأَنْ يُعَابَ إذَا عَابَ:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنْ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
وَآخَرُ مِنْ فِئَةٍ ثَالِثَةٍ يَغْتَرِفُ مِنْ بَحْرِهِ وَيَعْتَرِفُ بِبِرِّهِ وَبِرِّهِ، وَيَقْتَطِفُ مِنْ زَهْرِهِ مَا هُوَ أَزْهَرُ مِنْ الْأُفُقِ وَزَهْرِهِ، وَيَلْزَمُ
ــ
[حاشية الشبراملسي]
عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ (قَوْلُهُ: أَسَّسْت فِيهِ) أَيْ ذَكَرْت
وَفِي الْمِصْبَاحِ أَسَّسْته تَأْسِيسًا جَعَلْت لَهُ أَسَاسًا: أَيْ أَصْلًا (قَوْلُهُ: وَعُبَابُ الْمَنْقُولِ) أَيْ بَحْرُهُ (قَوْلُهُ: مَخَّضْت فِيهِ إلَخْ) أَيْ انْتَخَبْتهَا وَأَخَذْت خَالِصَهَا مِنْ مَخَّضْت اللَّبَنَ إذَا أَخَذْت زُبْدَهُ مِنْ بَابِ قَطَعَ وَنَصَرَ وَضَرَبَ اهـ مُخْتَارٌ (قَوْلُهُ: وَشَرْحَيْ الْبَهْجَةِ وَالرَّوْضِ) أَيْ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ: الْأَفَاضِلِ الْمُعَاصِرِينَ) أَيْ كَابْنِ حَجَرٍ وَالْخَطِيبِ (قَوْلُهُ: مَا تُبَتُّ عِنْدَهُ إلَخْ) أَيْ تُقْطَعُ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَيْهِ أَيْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنَاظِرَهُ هَلَكَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ عَجْزِهِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.
(قَوْلُهُ: لَا تَنْطِقُ بِرُؤْيَتِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِرِيبَةٍ: أَيْ بِتُهْمَةٍ لَهُ فِيمَا نَقَلَهُ (قَوْلُهُ: لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ) فَاعِلُ يَتَقَلَّبُ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ بَاتَ حَاسِدًا وَالْمَعْنَى: مَنْ بَاتَ يَتَقَلَّبُ فِي نِعَمِ شَخْصٍ أَوْلَاهَا إلَيْهِ وَهُوَ يَحْسُدُ ذَلِكَ الْمُنْعِمَ فَهُوَ أَظْلَمُ أَهْلِ الظُّلْمِ (قَوْلُهُ: بِحَبْلٍ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَشَدَّ إلَخْ (قَوْلُهُ: فَنَوَى كُلٌّ مِنْهُمْ السُّوءَ) أَيْ بِأَنْ نَوَى فِي نَفْسِهِ انْتِقَاصَهُ فَذَكَرَ لَهُ مَسَاوِيَ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِلْوَاقِعِ حَسَدًا وَإِرَادَةَ أَنَّ النَّاسَ يَتْرُكُونَهُ (قَوْلُهُ فِي مَيْدَانِ الْحَسَدِ إلَخْ) الْمَيْدَانُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ (قَوْلُهُ: حَتَّى صُرِفَ عَنْ الْهُدَى)
ــ
[حاشية الرشيدي]
بِالْإِتْمَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَنْشَأَ الْخُطْبَةَ فِي خِلَالِ الشَّرْحِ وَكَانَ قَدْ أَسَّسَ فِيهِ مَا يَأْتِي، فَقَوْلُهُ فِيمَا يَأْتِي أَسَّسْت إلَى آخِرِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَعْضِ (قَوْلُهُ: وَصَوَابُ كُلِّ قَوْلٍ مَقْبُولٍ) الْإِضَافَةُ فِيهِ بَيَانِيَّةٌ، وَإِلَّا اقْتَضَى أَنَّ الْمَقْبُولَ مِنْهُ صَوَابٌ وَغَيْرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ: فَأَخَذْت زَبَدَهَا وَدِرَرَهَا) بِكَسْرِ الدَّالِ جَمْعُ دَرٍّ بِالْفَتْحِ (قَوْلُهُ: مِنْ شُرُوحِ الْكِتَابِ إلَخْ) لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِيهِ بَيَانِيَّةً؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَخَّصَ فِيهِ جَمِيعَ شُرُوحِ الْمِنْهَاجِ، وَالْإِرْشَادِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ الِابْتِدَاءِ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: وَشَرْحَيْ الْبَهْجَةِ إلَخْ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: خَيْرَهُمَا لَا تَنْطِقُ إلَخْ) أَيْ مَعَ أَنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِمَحَاسِنِهِ إذْ هُوَ الْمُقْسِمُ، فَمَعْنَى الْإِنْكَارِ حِينَئِذٍ عَدَمُ الِاعْتِرَافِ أَعَمُّ مِنْ الرَّمْيِ بِالْقَبِيحِ وَعَدَمِهِ، وَلْيُنْظَرْ الْفَرْقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ إحْدَى الْقَبِيلَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى، فَإِنَّ الْكُفْرَ اللُّغَوِيَّ الَّذِي هُوَ مُرَادٌ فِيهَا مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ فَلْيُحَرَّرْ.
(قَوْلُهُ: فِي مَيْدَانِ الْحَسَدِ) الْأَوْلَى مَيْدَانِ الضَّلَالِ (قَوْلُهُ: أَزْهَرُ مِنْ الْأُفُقِ وَزُهُورُهُ) أَيْ إضَاءَتُهُ، وَفِي نُسَخٍ وَزَهْرُهُ