التَّعَمُّدِ إذَا كَانَ قَلِيلًا، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ عَدَمُ الْفَرْقِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْمَاءِ فَدَخَلَ جَوْفَهُ وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ سَدَّ فَاهُ لَمْ يَدْخُلْ أَفْطَرَ لِقَوْلِ الْأَنْوَارِ: وَلَوْ فَتَحَ فَاهُ فِي الْمَاءِ فَدَخَلَ جَوْفَهُ أَفْطَرَ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ مَا مَرَّ إنَّمَا عُفِيَ عَنْهُ لِعُسْرٍ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ لَوْ وَضَعَ شَيْئًا فِيهِ عَمْدًا: أَيْ لِغَرَضٍ بِقَرِينَةِ مَا يَأْتِي وَابْتَلَعَهُ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الدَّارِمِيِّ لَوْ كَانَ بِفِيهِ أَوْ أَنْفِهِ مَاءٌ فَحَصَلَ لَهُ نَحْوُ عُطَاسٍ فَنَزَلَ بِهِ الْمَاءُ جَوْفَهُ أَوْ صَعِدَ لِدِمَاغِهِ لَمْ يُفْطِرْ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا يَأْتِي مِنْ الْفِطْرِ بِسَبْقِ الْمَاءِ الَّذِي وَضَعَهُ فِي فِيهِ لِأَنَّ الْعُذْرَ هُنَا أَظْهَرُ وَقَدْ مَرَّ عَدَمُ فِطْرِهِ بِالرَّائِحَةِ وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْأَنْوَارِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ وُصُولَ الدُّخَانِ الَّذِي فِيهِ رَائِحَةُ الْبَخُورِ أَوْ غَيْرِهِ إلَى الْجَوْفِ لَا يُفْطِرُ بِهِ وَإِنْ تَعَمَّدَ فَتْحَ فِيهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَبِهِ أَفْتَى الشَّمْسُ الْبِرْمَاوِيُّ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَيْنًا: أَيْ عُرْفًا، إذْ الْمَدَارُ هُنَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَيْنِ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ ظُهُورَ الرِّيحِ وَالطَّعْمِ مُلْحَقٌ بِالْعَيْنِ فِيهِ لَا هُنَا، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ انْفِصَالُ عَيْنٍ هُنَا، وَلَوْ خَرَجَتْ مُقْعَدَةُ الْمَبْسُورِ ثُمَّ عَادَتْ لَمْ يُفْطِرْ، وَكَذَا إنْ أَعَادَهَا عَلَى الْأَصَحِّ لِاضْطِرَارِهِ إلَيْهِ كَمَا لَا يَبْطُلُ طُهْرُ الْمُسْتَحَاضَةِ بِخُرُوجِ الدَّمِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ وَالْخُوَارِزْمِيّ، وَيُوَجَّهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَالرِّيقِ إذَا ابْتَلَعَهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ الْفَمِ عَلَى اللِّسَانِ وَبِهِ يُفَارِقُ مَا لَوْ أَكَلَ جُوعًا، وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ الذُّبَابَ وَأَفْرَدَ الْبَعُوضَةَ تَبَعًا لِنَظْمِ الْآيَةِ أَوْ لِأَنَّ الْبَعُوضَةَ لَمَّا كَانَتْ أَصْغَرَ جِرْمًا مِنْ الذُّبَابَةِ وَأَسْرَعَ دُخُولًا مِنْهَا مَعَ أَنَّ جَمْعَ الذُّبَابِ مَعَ كِبَرِ جِرْمِهِ وَنُدْرَةِ دُخُولِهِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا لَا يَضُرُّ عُلِمَ أَنَّ جَمْعَ الْبَعُوضِ لَا يَضُرُّ بِالْأَوْلَى فَأَفْرَدَ الْبَعُوضَ وَجَمَعَ الذُّبَابَ لِفَهْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الثَّانِي بِالْأَوْلَى.
(وَلَا يُفْطِرُ بِبَلْعِ رِيقِهِ) الصَّرْفُ (مِنْ مَعْدِنِهِ) أَيْ مَحَلِّهِ وَهُوَ الْفَمُ جَمِيعُهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا نَبَعَ لِتَلْيِينِ مَأْكُولٍ أَوْ تَرْطِيبِ لِسَانٍ أَوْ تَسْهِيلِ نُطْقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَاحْتُرِزَ بِرِيقِهِ عَمَّا لَوْ مَصَّ رِيقَ غَيْرِهِ وَبَلَعَهُ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ جَزْمًا (فَلَوْ خَرَجَ عَنْ الْفَمِ) وَلَوْ إلَى ظَاهِرِ الشَّفَةِ لَا عَلَى
ــ
[حاشية الشبراملسي]
قَالَ سم عَلَى بَهْجَةِ بَعْدَ مِثْلَ مَا ذُكِرَ عَنْ وَالِدِ الشَّارِحِ: وَفِي الْعُبَابِ الْجَزْمُ بِالْفِطْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (قَوْلُهُ: عَدَمُ الْفَرْقِ) أَيْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ (قَوْلُهُ: وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ لَوْ فَتَحَ فَاهُ عَمْدًا (قَوْلُهُ: وَفِيهِ) أَيْ الْأَنْوَارِ (قَوْلُهُ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ) فِي أَخْذِ هَذَا مِمَّا مَرَّ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَيَّدَ عَدَمَ الْفِطْرِ ثُمَّ بِوُصُولِ الرِّيحِ بِالشَّمِّ، وَمَا هُنَا لَيْسَ بِالشَّمِّ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَنِدْ هُنَا لِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ بَلْ نَقَلَهُ عَنْ الْبِرْمَاوِيِّ كَمَا يَأْتِي (قَوْلُهُ لِمَا تَقَرَّرَ) يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ شُرْبَ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْآنَ بِالدُّخَانِ لَا يُفْطِرُ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْعُرْفِ هُنَا فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى عَيْنًا، كَمَا أَنَّ الدُّخَانَ الْمُخْتَلِطَ بِالْبَخُورِ لَا يُسَمَّاهُ وَلَا يُنَافِيهِ عَدُّهُمْ الدُّخَانَ عَيْنًا فِي بَابِ النَّجَاسَةِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ اخْتِلَافِ مَلْحَظِ الْبَابَيْنِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ شَيْخِنَا الزِّيَادِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ قَصَبَةً مِمَّا يُشْرَبُ فِيهِ وَكَسَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَرَاهُ مَا تَجَمَّدَ مِنْ أَثَرِ الدُّخَانِ فِيهَا وَقَالَ لَهُ هَذَا عَيْنٌ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ حَيْثُ كَانَ عَيْنًا يُفْطِرُ.
وَنَاقَشَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ تَلَامِذَتِهِ أَيْضًا بِأَنَّ مَا فِي الْقَصَبَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الرَّمَادِ الَّذِي يَبْقَى مِنْ أَثَرِ النَّارِ لَا مِنْ عَيْنِ الدُّخَانِ الَّذِي يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ، وَقَالَ: الظَّاهِرُ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّارِحِ مِنْ عَدَمِ الْإِفْطَارِ بِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، غَيْرَ أَنَّ قَوْلَ الشَّارِحِ هُنَا وَإِنْ تَعَمَّدَ فَتْحَ فِيهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ ابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ وَعَدَمُ تَسْمِيَتِهِ عَيْنًا يَقْتَضِي عَدَمَ الْفِطْرِ (قَوْلُهُ: وَكَذَا إنْ أَعَادَهَا) أَيْ وَإِنْ تَوَقَّفَتْ إعَادَتُهَا عَلَى دُخُولِ شَيْءٍ مِنْ أُصْبُعِهِ (قَوْلُهُ: بَعْدَ انْفِصَالِهِ) أَيْ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ لِكَثْرَةِ الِابْتِلَاعِ بِهِ
(قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يُفْطِرُ جَزْمًا) قَالَ حَجّ: وَمَا جَاءَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَمُصُّ لِسَانَ عَائِشَةَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَاقِعَةُ حَالٍ فِعْلِيَّةٌ مُحْتَمِلَةٌ أَنْ يَمُصَّهُ
[حاشية الرشيدي]
قَوْلُهُ وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ الذُّبَابَ) فِي أَدَبِ الْكَاتِبِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ الذُّبَابَ مُفْرَدٌ وَجَمْعُهُ ذِبَّانٌ كَغُرَابٍ وَغِرْبَانٍ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ بَلْ لَا وَجْهَ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ، وَعِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ فِي الْآيَةِ: وَالذُّبَابُ مِنْ الذَّبِّ لِأَنَّهُ يُذَبُّ وَجَمْعُهُ أَذِبَّةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute