الْكَعْبَةِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ أَمْ لَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَدُوُّ فِرَقًا أَمْ فِرْقَةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: ١٩٦] أَيْ وَأَرَدْتُمْ التَّحَلُّلَ {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ١٩٦] أَيْ فَعَلَيْكُمْ ذَلِكَ.
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ «صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَيْتِ وَكَانَ مُعْتَمِرًا فَنَحَرَ ثُمَّ حَلَقَ ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ حَلَالٌ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ، قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا» ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ فِي مُصَابَرَةِ الْإِحْرَامِ إلَى أَنْ يَأْتُوا بِالْأَعْمَالِ مَشَاقَّ وَحَرَجًا، وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنَّا، وَلَاسْتَفَادَتْهُمْ بِهِ الْأَمْنَ مِنْ الْعَدُوِّ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَوْ مُنِعُوا مِنْ الرُّجُوعِ أَيْضًا جَازَ لَهُمْ التَّحَلُّلُ فِي الْأَصَحِّ، أَمَّا إذَا تَمَكَّنُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَبَذْلِ مَالٍ كَأَنْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقٌ آخَرُ يُمْكِنُ سُلُوكُهُ وَوُجِدَتْ شُرُوطُ الِاسْتِطَاعَةِ فِيهِ لَزِمَهُمْ سُلُوكُهُ سَوَاءٌ أَطَالَ الزَّمَانُ أَمْ قَصُرَ وَإِنْ تَيَقَّنُوا الْفَوَاتَ، فَلَوْ فَاتَهُمْ الْوُقُوفُ بِطُولِ الطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ أَوْ نَحْوِهِ تَحَلَّلُوا بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَظْهَرِ، وَيُكْرَهُ بَذْلُ مَالٍ لِلْكُفَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّغَارِ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَلَا يَحْرُمُ كَمَا لَا تَحْرُمُ الْهِبَةُ لَهُمْ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا يُكْرَهُ بَذْلُهُ لَهُمْ، وَالْأَوْلَى قِتَالُ الْكُفَّارِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِيَجْمَعُوا بَيْنَ الْجِهَادِ وَنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَإِتْمَامِ النُّسُكِ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ قِتَالِهِمْ أَوْ كَانَ الْمَانِعُونَ مُسْلِمِينَ فَالْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَتَحَلَّلُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْقِتَالِ تَحَرُّزًا عَنْ سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ لَهُمْ إنْ أَرَادُوا الْقِتَالَ لُبْسَ الدِّرْعِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْفِدْيَةُ كَمَا لَوْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ لِدَفْعِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ التَّحَلُّلِ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِاحْتِمَالِ زَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَإِنْ ضَاقَ فَالْأَوْلَى التَّعْجِيلُ مَخَافَةَ أَنْ يَفُوتَهُمْ الْحَجُّ فَيَلْزَمَهُمْ الْقَضَاءُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
نَعَمْ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ انْكِشَافُهُ فِي مُدَّةِ الْحَجِّ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُمْ إدْرَاكُهُ أَوْ فِي الْعُمْرَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ التَّحَلُّلُ، وَكَذَا لَوْ مُنِعُوا عَنْ غَيْرِ الْأَرْكَانِ كَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ وَالْحَلْقِ، وَيَقَعُ حَجُّهُمْ مُجْزِئًا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيُجْبَرُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِالدَّمِ وَإِنْ مُنِعُوا مِنْ عَرَفَةَ دُونَ مَكَّةَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَيَتَحَلَّلُوا بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وَإِنْ مُنِعُوا مِنْ مَكَّةَ دُونَ عَرَفَةَ وَقَفُوا ثُمَّ تَحَلَّلُوا وَلَا قَضَاءَ فِيهِمَا فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَصْرِ الْخَاصِّ كَأَنْ حُبِسَ ظُلْمًا أَوْ بِدَيْنٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ بِهِ وَعَاجِزٌ عَنْ إثْبَاتِ إعْسَارِهِ بِهِ؛ لِأَنَّ مَشَقَّةَ كُلِّ أَحَدٍ لَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ أَنْ يَتَحَمَّلَ غَيْرُهُ مِثْلَهَا وَأَنْ لَا يَتَحَمَّلَ، وَالْحَائِضُ إذَا لَمْ تَطُفْ لِلْإِفَاضَةِ وَلَمْ يُمْكِنْهَا الْإِفَاضَةُ حَتَّى تَطْهُرَ وَجَاءَتْ بَلَدَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَعَدِمَتْ
ــ
[حاشية الشبراملسي]
وَعَلَيْهِ فَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَوْ امْتَنَعَ مَالِكُ الرَّاحِلَةِ أَوْ الزَّادِ إلَّا بِزِيَادَةٍ تَافِهَةٍ حَيْثُ يَجِبُ شِرَاؤُهَا بِالزِّيَادَةِ لِتَفَاهَتِهَا بِأَنَّ الْمَبْذُولَ هُنَا ظُلْمٌ مَحْضٌ، بِخِلَافِ فِيمَا مَرَّ فَإِنَّهُ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (قَوْلُهُ: وَأَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ عَلَى جَوَازِ التَّحَلُّلِ بِالْإِحْصَارِ (قَوْلُهُ: جَازَ لَهُمْ التَّحَلُّلُ) أَيْ وَفَائِدَتُهُ دَفْعُ مَشَقَّةِ الْإِحْرَامِ كَالْحَلْقِ وَالْقَلْمِ وَنَحْوِهِمَا (قَوْلُهُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَظْهَرِ) أَيْ لِأَنَّهُ فَوَاتٌ نَشَأَ عَنْ حَصْرٍ فَلَا يُشْكِلُ بِمَا يَأْتِي مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فَوَاتٌ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ حَصْرٍ (قَوْلُهُ: وَلَا يَحْرُمُ كَمَا لَا تَحْرُمُ الْهِبَةُ) قَدْ يَمْنَع الْقِيَاسُ بِأَنَّ فِي الْهِبَةِ عُلُوَّ الْوَاهِبِ وَشَرَفَهُ لِإِنْعَامِهِ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ، بِخِلَافِ بَذْلِ الْمَالِ لِهَذَا الْغَرَضِ فَإِنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْعَجْزِ عَنْ رَفْعِ الْكَافِرِ وَهَوْلِ ذُلٍّ، (قَوْلُهُ: فَيَلْزَمُهُمْ الْقَضَاءُ) ضَعِيفٌ (قَوْلُهُ: وَالْحَائِضُ إذَا لَمْ تَطُفْ) لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مَتَى وَصَلَتْ إلَى مَحَلٍّ
[حاشية الرشيدي]
وَلَك أَنْ تَقُولَ: مَا الْمَانِعُ مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ مِنْ الْحَصْرِ الْخَاصِّ أَيْضًا لِاتِّحَادِ الْحُكْمِ وَلِانْطِبَاقِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَقَفُوا ثُمَّ تَحَلَّلُوا) أَيْ وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْوُقُوفِ فَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ عَنْ نَحْوِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي قُبَيْلَ الْمَانِعِ الْخَامِسِ.
(قَوْلُهُ: كَأَنَّ حَبَسَ) خَيْر قَوْلِهِ وَالْحَصْرُ الْخَاصُّ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي صَدْرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي الْحَصْرُ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامَّ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْعُ بِقَطْعِ طَرِيقٍ إلَخْ. ثُمَّ بَيَّنَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ وَالْحَصْرُ الْخَاصُّ إلَخْ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَنْ أُحْصِرَ وَإِنْ كَانَ فِي سِيَاقِ الشَّارِحِ قَلَاقَةٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرَ قَوْلِهِ وَالْحَصْرُ الْخَاصُّ إلَخْ عَنْ الْقِيلِ الْآتِي (قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَشَقَّةَ كُلِّ أَحَدٍ إلَخْ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute