للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَمَّا مَنْ لَمْ يُقَصِّرْ بِأَنْ مَاتَ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَفِي عَزْمِهِ الْوَفَاءُ مَتَى تَمَكَّنَ فَلَا تُحْبَسُ نَفْسُهُ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ يُقَالُ لَهُ أَبُو الشَّحْمِ عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعًا لِأَهْلِهِ» إذْ الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَاتَ وَلَمْ يَفُكَّهُ.

وَشَرْعًا: جَعْلُ عَيْنِ مَالٍ مُتَمَوَّلَةٍ وَثِيقَةً بِدَيْنٍ لِيُسْتَوْفَى مِنْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ وَفَائِهِ وَأَصْلُهُ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَةُ {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣] أَيْ فَارْهَنُوا وَاقْبِضُوا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ: أَيْ مُفْرَدُهُ جُعِلَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ بِالْفَاءِ فَجَرَى مُجْرَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَضَرْبَ الرِّقَابِ وَالْوَثَائِقُ بِالْحُقُوقِ ثَلَاثَةٌ: شَهَادَةٌ وَرَهْنٌ وَضَمَانٌ فَالْأَوَّلُ لِخَوْفِ الْجَحْدِ، وَالْآخَرَانِ لِخَوْفِ الْإِفْلَاسِ.

وَأَرْكَانُهُ: عَاقِدٌ وَمَرْهُونٌ وَمَرْهُونٌ بِهِ وَصِيغَةٌ وَبَدَأَ بِهَا لِأَهَمِّيَّتِهَا فَقَالَ (لَا يَصِحُّ) الرَّهْنُ (إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ) أَوْ اسْتِيجَابٍ وَإِيجَابٍ كَنَظِيرِهِ الْمَارِّ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَالِيٌّ فَافْتَقَرَ

ــ

[حاشية الشبراملسي]

بَيْنَ مَوْتِهِ فَجْأَةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ بِمَرَضٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَ حَبْسِ رُوحِهِ حَيْثُ خَلَّفَ مَا يَفِي بِالدَّيْنِ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ التَّوْفِيَةُ قَبْلَ وَفَاتِهِ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى تَقْصِيرٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلًا وَالْمُؤَجَّلُ إنَّمَا يَجِبُ وَفَاؤُهُ بَعْدَ الْحُلُولِ (قَوْلُهُ: أَمَّا مَنْ لَمْ يُقَصِّرْ) لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي كَلَامِهِ مَا يَصْلُحُ لِكَوْنِ هَذَا مَفْهُومًا لَهُ فَلَعَلَّهُ احْتَرَزَ عَنْهُ بِمُقَدَّرٍ فِي كَلَامِهِ مِثْلِ إنْ قَصَّرَ، ثُمَّ رَأَيْت الْخَطِيبَ صَرَّحَ بِهَذَا الْقَيْدِ حَيْثُ قَالَ: أَوْ مَا لَمْ يَخْلُفْ وَفَاءً: أَيْ وَقَصَّرَ (قَوْلُهُ: وَهُوَ مُعْسِرٌ) أَيْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْوَفَاءِ قَبْلَ الْإِعْسَارِ (قَوْلُهُ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ) أَيْ حَبْسُ الرُّوحِ عَنْ مَقَامِهَا (قَوْلُهُ: فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ) وَيَنْبَغِي أَنَّ مِثْلَهُمْ غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَأَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ بِسَبَبِ إتْلَافِهِمْ (قَوْلُهُ: رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ) وَآثَرَهُ لِيَسْلَمَ مِنْ نَوْعِ مِنَّةٍ أَوْ تَكَلُّفِ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ بِإِبْرَائِهِ أَوْ عَدَمِ أَخْذِ الرَّهْنِ مِنْهُ (قَوْلُهُ: صَاعًا) أَيْ مِنْ شَعِيرٍ مَنْهَجٌ وحج (قَوْلُهُ: عَلَى ثَلَاثِينَ) أَيْ ثَمَنُ ثَلَاثِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهَا أَنْفُسِهَا لِاقْتِرَاضِهَا مِنْهُ، وَنُقِلَ بِالدَّرْسِ عَنْ فَتْحِ الْبَارِي الْجَزْمُ بِالْأَوَّلِ فَرَاجِعْهُ (قَوْلُهُ إذْ الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَاتَ وَلَمْ يَفُكَّهُ) هَذَا لَا يُلَاقِي مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ مَنْ خَلَّفَ وَفَاءً وَلَمْ يَعْصِ بِالِاسْتِدَانَةِ لَا تُحْبَسُ رُوحُهُ.

وَأَمَّا مَنْ سِوَى كَحَجٍّ فَالتَّقْيِيدُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وَكُتِبَ عَلَيْهِ أَيْضًا (قَوْلُهُ: وَلَمْ يَفُكَّهُ) أَيْ وَلَوْ كَانَتْ رُوحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُحْبَسُ لَافْتَكَّهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ (قَوْلُهُ: جَعْلُ عَيْنِ مَالٍ) خَرَجَ بِهِ الِاخْتِصَاصَاتُ وَقَوْلُهُ مُتَمَوِّلَةٍ خَرَجَ بِهِ نَحْوُ الْقَمْحَةِ وَالْقَمْحَتَيْنِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّهْنَ (قَوْلُهُ: فَجَرَى مَجْرَى الْأَمْرِ) فِيهِ أَنَّ وَصْفَهُ بِمَقْبُوضَةٍ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَصْدَرِ، إذْ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَبْضُ إنَّمَا هُوَ الْعَيْنُ دُونَ الْحَدَثِ اهـ سم عَلَى حَجّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ وَصْفَهَا بِالْقَبْضِ مِنْ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ وَالْأَصْلُ مَقْبُوضٌ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ، أَوْ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ مَجَازٌ عَنْ الْمَصْدَرِ فَرُوعِيَ أَصْلُهُ (قَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أَيْ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَلْيُحَرِّرْ رَقَبَةً (قَوْلُهُ: فَضَرْبَ الرِّقَابِ) أَيْ فَاضْرِبُوا مِنْهُمْ الرِّقَابَ (قَوْلُهُ: بِالْحُقُوقِ) أَيْ بِجِنْسِ الْحُقُوقِ أَوْ بِمَجْمُوعِ الْحُقُوقِ، إذْ مِنْهَا مَا يَدْخُلُهُ الثَّلَاثَةُ كَالْبَيْعِ، وَمِنْهَا مَا يَدْخُلُهُ الشَّهَادَةُ فَقَطْ وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ وَنُجُومُ الْكِتَابَةِ، وَمِنْهَا مَا تَدْخُلُهُ الشَّهَادَةُ وَالْكَفَالَةُ دُونَ الرَّهْنِ وَهُوَ الْجَعَالَةُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، وَمِنْهَا مَا تَدْخُلُهُ الْكَفَالَةُ فَقَطْ كَضَمَانِ الدَّرَكِ (قَوْلُهُ: وَمَرْهُونٌ) إنَّمَا لَمْ يَقُلْ بَدَلَ مَرْهُونٍ وَمَرْهُونٌ بِهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْآخَرِ فَكَانَ التَّفْصِيلُ أَوْلَى لِمُطَابَقَتِهِ لِمَا بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ وَشَرْطُ الرَّهْنِ كَوْنُهُ عَيْنًا (قَوْلُهُ: وَإِيجَابٌ) أَيْ أَوْ اسْتِقْبَالٌ وَقَبُولٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّارِحُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ لَهُ فِيمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ فَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى خُصُوصِ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ (قَوْلُهُ: كَنَظِيرِهِ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَهَنْتُك هَذَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي الْقَرْضِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ فَلَا يَضُرُّ فِيهِ عَدَمُ مُوَافَقَةِ الْقَبُولِ لِلْإِيجَابِ كَالْهِبَةِ، وَقَدْ يُؤَيِّدُ الْفَرْقَ مَا تَقَدَّمَ لِلشَّارِحِ فِيمَا لَوْ أَقْرَضَهُ أَلْفًا فَقَبِلَ خَمْسَمِائَةٍ حَيْثُ عَلَّلَ عَدَمَ الصِّحَّةِ فِيهِ بِمُشَابَهَتِهِ لِلْبَيْعِ بِأَخْذِ الْعِوَضِ وَمَا هُنَا لَا عِوَضَ فِيهِ فَكَانَ بِالْهِبَةِ أَشْبَهَ، وَأَيْضًا فَالرَّهْنُ جَائِزٌ.

ــ

[حاشية الرشيدي]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

<<  <  ج: ص:  >  >>