للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ الْبَعْثَةِ نَظْمُ أَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ، وَانْتِظَامُهَا إنَّمَا يُحَصَّلُ بِكَمَالِ قُوَاهُمْ النُّطْقِيَّةِ وَالشَّهَوِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ، فَمَا يُبْحَثُ عَنْهُ فِي الْفِقْهِ إنْ تَعَلَّقَ بِكَمَالِ النُّطْقِيَّةِ فَالْعِبَادَةُ إذْ بِهَا كَمَالُهَا أَوْ بِكَمَالِ الشَّهْوِيَّةِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ فَالْمُعَامَلَةُ أَوْ بِالْوَطْءِ وَنَحْوِهِ فَالْمُنَاكَحَةُ أَوْ بِكَمَالِ الْغَضَبِيَّةِ فَالْجِنَايَةُ، وَأَهَمُّهَا الْعِبَادَةُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْأَشْرَفِ، ثُمَّ الْمُعَامَلَةُ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا؛ ثُمَّ الْمُنَاكَحَةُ؛ لِأَنَّهَا دُونَهَا فِي الْحَاجَةِ، ثُمَّ الْجِنَايَةُ لِقِلَّةِ وُقُوعِهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهَا، فَرَتَّبُوهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَرَتَّبُوا الْعِبَادَةَ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى تَرْتِيبِ خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ» وَاخْتَارُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى رِوَايَةِ تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَعَمُّ وُجُوبًا لِوُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَلِتَكَرُّرِهِ فِي كُلِّ عَامٍ.

وَالطَّهَارَةُ مَصْدَرُ طَهَرَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ يَطْهُرُ بِضَمِّهَا فِيهِمَا، وَهِيَ لُغَةً: النَّظَافَةُ وَالْخُلُوصُ مِنْ الْأَدْنَاسِ حِسِّيَّةً كَانَتْ كَالْأَنْجَاسِ أَوْ مَعْنَوِيَّةً كَالْعُيُوبِ، وَشَرْعًا:

ــ

[حاشية الشبراملسي]

عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَلَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً لَهُ (قَوْلُهُ: فِي الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ) يَحْتَمِلَانِ الْمَصْدَرَ وَاسْمَ الزَّمَانِ ابْنُ قَاسِمٍ عَلَى الْبَهْجَةِ. أَقُولُ: وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي (قَوْلُهُ بِكَمَالِ قُوَاهُمْ النُّطْقِيَّةِ) أَيْ الْإِدْرَاكِيَّةِ اهـ ابْنُ قَاسِمٍ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ، وَقَالَ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى شَرْحِ الْبَهْجَةِ: أَيْ الْعَقْلِيَّةِ اهـ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ الْمُرَادُ بِكَمَالِهَا بِمَا أَنَّهَا تُزِيلُ نَقْصًا يَكُونُ لَوْلَاهَا، أَوْ أَنَّهَا تُفِيدُ اعْتِبَارَهَا، وَالِاعْتِدَادُ بِهَا فِيهِ نَظَرٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ اهـ (قَوْلُهُ: لِتَعَلُّقِهَا بِالْأَشْرَفِ) وَهُوَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (قَوْلُهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ) وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ لِلْفَرَائِضِ لَعَلَّهُ لِكَوْنِهَا عِلْمًا مُسْتَقِلًّا أَوْ لِجَعْلِهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ حُكْمًا إذْ مَرْجِعُهَا قِسْمَةُ التَّرِكَاتِ وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْمُعَامَلَاتِ، وَأَخَّرُوا الْقَضَاءَ وَالشَّهَادَاتِ وَالدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَالْجِنَايَاتِ (قَوْلُهُ: وَعَلَى رِوَايَةِ تَقْدِيمِ الْحَجِّ) يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُمَا فِي الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ (قَوْلُهُ: بِضَمِّهَا فِيهِمَا) وَيُقَالُ أَيْضًا طَهِرَ يَطْهَرُ بِكَسْرِهَا فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ: إذَا اغْتَسَلَ لَا مُطْلَقًا، وَلِعَدَمِ عُمُومِهَا بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَذْكُرْهَا الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ: وَالْخُلُوصُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ (قَوْلُهُ: وَشَرْعًا) ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ لِلْأَصْحَابِ. وَقَالَ ابْنُ قَاسِمٍ عَلَى الْمَنْهَجِ: إنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ لِلشِّهَابِ الرَّمْلِيِّ اسْتِنْبَاطًا مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَعَلَّ عَدَمَ عَزْوِ الشَّارِحِ إيَّاهُ لِوَالِدِهِ لِكَوْنِهِ لَمَّا كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ كَلَامِهِمْ صَحِيحٌ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمْ.

هَذَا، وَعَبَّرَ عَنْ مَعْنَى الطَّهَارَةِ الْمُقَابِلِ اللُّغَوِيِّ بِقَوْلِهِ وَشَرْعًا، وَعَنْ مَعْنَى الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَاصْطِلَاحًا بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ مَا تَلْقَى مَعْنَاهَا مِنْ الشَّارِعِ، وَأَنَّ مَا لَمْ يُتَلَقَّ مِنْ الشَّارِعِ يُسَمَّى اصْطِلَاحِيَّةً، وَإِنْ كَانَ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ بِأَنْ اصْطَلَحُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي مَعْنًى فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَقَّوْا التَّسْمِيَةَ بِهِ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ. نَعَمْ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ قَاسِمٍ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبَهْجَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ فِيمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا.

هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّقْسِيمَ لِغَيْرِ اللُّغَوِيَّةِ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ لِلْعُرْفِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، لَكِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْعُرْفِيَّةِ كَمَا قَالَ الْعَضُدُ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ قَاسِمٍ عَنْهُ فِي شَرْحِ الْوَرَقَاتِ فِي الْعَامَّةِ وَتَسْمِيَةِ الْخَاصَّةِ بِالِاصْطِلَاحِيَّةِ، فَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ هُنَا تَبَعًا لِلشَّيْخِ جَرَى فِيهِ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إطْلَاقُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْأَوَّلِ حَقِيقَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي مَجَازٌ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ انْتَهَى.

وَهَا هُنَا مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ ذَكَرهَا الرَّازِيّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: ١٦] هِيَ أَنَّ الشَّارِعَ اخْتَرَعَ مَعَانِيَ شَرْعِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ فِيهَا أَلْفَاظًا مَوْضُوعَةً فِي اللُّغَةِ لَمَعَانٍ أُخْرَى، فَهَلْ هِيَ حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ أَوْ مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ

ــ

[حاشية الرشيدي]

فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ مَحَالِّهَا (قَوْلُهُ النُّطْقِيَّةِ) أَيْ الْإِدْرَاكِيَّةِ (قَوْلُهُ: فَالْجِنَايَةُ) يَعْنِي التَّحَرُّزَ عَنْهَا كَمَا فِي التُّحْفَةِ (قَوْلُهُ: بِالْأَشْرَفِ) أَيْ كَمَالِ النُّطْقِيَّةِ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ فِي حَاشِيَةِ شَيْخِنَا (قَوْلُهُ: وَالطَّهَارَةُ مَصْدَرُ إلَخْ) كَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>