تُشِيرُ إلَيْهِمْ بِالْأَكُفِّ الْأَصَابِعُ وَشُمُّ الْأُنُوفِ، يَخْضَعُ إلَيْهِمْ كُلُّ شَامِخِ الْأَنْفِ رَافِعٍ، حَلَّقُوا عَلَى سُوَرِ الْإِسْلَامِ كَسِوَارِ الْمِعْصَمِ قَائِلِينَ لِأَهْلِهِ وَالْحَقُّ سَامِعٌ:
أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمْ ... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ
زَيَّنَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِمَوَاطِئِ أَقْدَامِهِمْ فَالشِّفَاهُ تُقَبِّلُ خِلَالَهَا، وَبِإِحَاطَةِ أَحْكَامِهِمْ وَإِحْكَامِهِمْ تَذْكُرُ حَرَامَهَا وَحَلَالَهَا، وَتَرْشُفُ مِنْ زُلَالِهَا مَا حَلَا لَهَا، وَلَقَدْ سَارُوا فِي مَسَالِكِ الْفِقْهِ غَوْرًا وَنَجْدًا، وَدَارُوا عَلَيْهِ هَائِمِينَ بِهِ وَجْدًا، فَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ عَلَى مَنْهَجِ مِنْهَاجِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَحْسَنَ سَيْرٍ، وَجَرَى فِي أَحْوَالِهِ عَلَى مِنْوَالِهِ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ إلَى غَيْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ دَأْبَهُ رَدَّ الْخُصُومِ وَخَصْمَ الْمُخَالِفِينَ فَلَا يَفُوتُهُ الطَّائِفُ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ أَنَّهُ الطَّائِرُ فِي السَّمَاءِ يَحُومُ، وَإِقَامَةَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ مِنْهَا مَعَالِمُ لِلْهُدَى وَمَصَابِيحُ لِلدُّجَى
ــ
[حاشية الشبراملسي]
تَعَالَى مُنْشِئُ الْعُجَابِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ لِلَّهِ دَرُّهُ، فَارِسًا: مَا أَعْجَبَ فِعْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّعَجُّبُ مِنْ لَبَنِهِ الَّذِي ارْتَضَعَهُ مِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ: أَيْ مَا أَعْجَبَ هَذَا اللَّبَنَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ مِثْلُ هَذَا الْوَلَدِ الْكَامِلِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ اهـ. (قَوْلُهُ: تُشِيرُ إلَيْهِمْ بِالْأَكُفِّ الْأَصَابِعُ) فَالْأَصَابِعُ فَاعِلُ أَشَارَتْ، وَبِالْأَكُفِّ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنْهَا: أَيْ أَشَارَتْ الْأَصَابِعُ حَالَةَ كَوْنِهَا مَعَ الْأَكُفِّ، يُرِيدُ أَنَّ الْإِشَارَةَ وَقَعَتْ بِمَجْمُوعِ الْأَصَابِعِ وَالْأَكُفِّ اهـ دَمَامِينِيٌّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ فِيهِ قَلْبًا وَالْأَصْلُ أَشَارَتْ الْأَكُفُّ بِالْأَصَابِعِ (قَوْلُهُ شُمُّ الْأُنُوفِ) هُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ، وَاللَّامُ فِي الْأُنُوفِ عِوَضٌ عَنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ: أَيْ أُنُوفُهُمْ شُمٌّ جَمْعُ أَشَمَّ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الشَّمَمُ ارْتِفَاعُ الْأَنْفِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ: مِنْ بَابِ تَعِبَ، فَالرَّجُلُ أَشَمُّ وَالْمَرْأَةُ شَمَّاءُ مِثْلَ أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ اهـ.
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْأَشَمُّ السَّيِّدُ وَالْمَنْكِبُ الْمُرْتَفِعُ (قَوْلُهُ: شَامِخٌ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: شَمَخَ الْجَمَلُ عَلَا وَطَالَ، وَالرَّجُلُ بِأَنْفِهِ تَكَبَّرَ (قَوْلُهُ: حَلَّقُوا) أَحَاطُوا بِهِ وَدَارُوا حَوْلَهُ كَدَوَرَانِ السِّوَارِ عَلَى الْمِعْصَمِ. وَفِي النِّهَايَةِ: فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ: أَيْ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ بِأُصْبُعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا، وَعَقَدَ عَشْرًا: أَيْ بِأَنْ جَعَلَ رَأْسَ السَّبَّابَةِ فِي وَسَطِ الْإِبْهَامِ اهـ مِنْهُ (قَوْلُهُ غَوْرًا وَنَجْدًا) الْمَعْنَى: يَبْحَثُونَ عَنْ الْأَحْكَامِ خَفَايَاهَا وَجَلَايَاهَا كَأَنَّهُمْ سَارُوا فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ فِي الطَّرَقَاتِ الْمُنْخَفِضَةِ وَالْمُرْتَفِعَةِ، وَالْغَوْرُ فِي الْأَصْلِ: قَعْرُ كُلِّ شَيْءٍ، وَالنَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ اهـ مُخْتَارٌ (قَوْلُهُ: مَنْ سَارَ عَلَى مَنْهَجٍ إلَخْ) يُتَأَمَّلُ مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمَنْهَجِ وَالْمِنْهَاجِ مَعْنَاهُ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَنْهَجِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ لِاسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ مِنْ الدَّلِيلِ، وَبِالطَّرِيقِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمِنْهَاجِ الْأَدِلَّةُ أَنْفُسُهَا كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِالطَّرِيقِ الْوَاضِحِ دِينُ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الصِّرَاطَ فِي قَوْله تَعَالَى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: ٦] .
(قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ دَأْبَهُ) أَيْ شَأْنَهُ وَعَادَتَهُ كَالْمُصَنِّفِ (قَوْلُهُ: رَدَّ الْخُصُومِ) أَيْ مَنْ أَرَادَ الطَّعْنَ فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَوْلُهُ فَلَا يَفُوتُهُ الطَّائِفُ: أَيْ لَا يَفُوتُهُ مَنْ أَبْدَى شُبْهَةً وَإِنْ بَعُدَ وَانْتَهَى فِي الْبُعْدِ إلَى أَنَّ أَشْبَهَ الطَّائِرَ فِي السَّمَاءِ (قَوْلُهُ: وَخَصَمَ الْمُخَالِفِينَ) أَيْ غَلَبَهُمْ.
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: خَاصَمْته مُخَاصَمَةً وَخِصَامًا وَخَصَمْته أَخْصِمُهُ مِنْ بَابِ قَتَلَ: إذَا غَلَبْته فِي الْخُصُومَةِ، وَقَالَ فِي غَلَبَ غَلَبَهُ غَلَبًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَالِاسْمُ الْغَلَبُ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْغَلَبَةُ أَيْضًا (قَوْلُهُ: مِنْهَا مَعَالِمُ لِلْهُدَى) أَيْ مِنْ الْبَرَاهِينِ: يَعْنِي أَنَّ أَدِلَّتَهُمْ مِنْهَا مَا قَصَدَ بِهِ إثْبَاتَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ
[حاشية الرشيدي]
مِنْ مَجْرُورٍ مِنْ بَدَلِ اشْتِمَالٍ (قَوْلُهُ: حَرَامَهَا وَحَلَالَهَا) أَيْ الْأَحْكَامَ أَوْ الْأَرْضَ وَقَوْلُهُ وَيُرْشَفُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَقَوْلُهُ مَا حَلَا لَهَا أَيْ مِنْهَا: أَيْ الْأَحْكَامِ أَوْ الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ رَاجِعَةً إلَى الشِّفَاهِ فَيُقْرَأُ تُذْكَرُ وَتُرْشَفُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ (قَوْلُهُ: وَخَصْمَ الْمُخَالِفِينَ) بِمَعْنَى قَطْعِهِمْ وَإِفْحَامِهِمْ، لَا بِمَعْنَى مُخَاصَمَتِهِمْ الَّتِي هِيَ مُغَالَبَتُهُمْ وَفَخْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَأْبَاهَا اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى وَإِنْ قَالَ بِهِ شَيْخُنَا (قَوْلُهُ: مِنْهَا مَعَالِمُ لِلْهُدَى إلَخْ) شَبَّهَ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ بِالنُّجُومِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute