الحديث على جماعة من أكابر زمانه، وكان ديناً ورعاً، عليه وقار وسكينة، وكان ثقة ثبتاً نبيلاً قليل الكلام كثير الخير مفيداً، وأقام بدمشق مدة، واستوطن الموصل، ودخل أصبهان، ثم عاد إلى الموصل، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر. قال ابن خلكان: وكان شيخنا قاضي حلب بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع يفتخر بقراءته عليه ورويته، وكان كل يوم يسمط له دجاجة، ويتولى طبخها بيده. وكان كثيراً ما ينشد مسنداً إلى أبي الخير ألفاتب الواسطي:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
وفيها توفي العلامة أبو محمد الخشاب عبد الله بن أحمد البغدادي النحوي المحدث، طلب وسمع وأكثر وقرأ الكثير وكتب بخطه المليح المتقن، وأخذ العربية عن أبي السعادات ابن الشجري وابن الجواليقي، وأتقن النحو واللغة والتصريف والنسب والفرائض والحساب والهندسة وغير ذلك، وصنف التصانيف. وكان إليه المنتهى في حسن القراءة وسرعتها وفصاحتها مع الفهم والعذوبة، وانتهت إليه الإمامة في النحو، وكان متضلما من العلوم، وخطه في نهاية الحسن، وكان ظريفاً مزاحاً، وله شعر قليل من ذلك قوله في كتاب اللغز:
وذي أوجه لكنه غير بائح ... بصر، وذو الوجهين للسر مظهر
تناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتسمعها بالعين ما دمت تنظر
وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي في ابن العميد:
خلقت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملاء مسمعي من أبصرا
وشرح كتاب الجمل لعبد ألفاهر الجرجاني وسماه: المرتجل في شرح الجمل، وترك أبواباً في وسط الكتاب ما تكلم عليها، وشرح اللمع لابن جني ولم يكمله. وكانت فيه بزازة وقلة اكتراث بألفاكل والملابس، وسخ الثياب يسقى في جرة مكسورة، وما تأهل قط ولا تسرى. وذكر العماد انه كان بينه وبينه صحبة ومكاتبات، قال: ولما مات رأيته في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: خيراً، فقلت: فهل يرحم الله الأدباء؟ فقال: نعم، فقلت: وإن كانوا مقصرين؟ فقال: يجري عتاب كثير ثم يكون بعده النعيم. انتهى. قلت فافهم معنى هذا الكلام أيها الواقف عليه، إنما ذكر هذا للمقصرين في الخيرات لا للماصين أولي السيئات كأمثالنا. نسأل الله الكريم أن يسامحنا ويعفو عنا.