للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الإِقْدَامِ، وَمَعَهُمْ بَنَاتُ مُخَاضٍ، تَتْبَعُهُمْ فَلَمَّا نُودِيَ بِالرَّحِيلِ صَرُّوا الأُمَّهَاتِ، وَاحْتَقَبُوا الْمَنْتُوجَاتِ، لأَنَّهَا لَمْ تُطِقِ السَّيْرَ، فَانْتَهُوا رُكْبَانًا إِلَى الأَنْبَارِ، وَقَدْ تَحَصَّنَ أَهْلُ الأَنْبَارِ، وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، وَأَشْرَفُوا مِنْ حِصْنِهِمْ، وَعَلَى تِلْكَ الجنود شيرزاد صَاحِبُ سَابَاطَ- وَكَانَ أَعْقَلَ أَعْجَمِيٍّ يَوْمَئِذٍ وَأَسْوَدَهُ وَأَقْنَعَهُ فِي النَّاسِ: الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ- فَتَصَايَحَ عَرَبُ الأَنْبَارِ يَوْمَئِذٍ مِنَ السُّورِ، وَقَالُوا: صبح الأنبار شر، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ فقال شيرزاد: مَا يَقُولُونَ؟ فَفَسَّرَ لَهُ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَضَاءً كَادَ يُلْزِمُهُمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِدٌ مُجْتَازًا لأُصَالِحَنَّهُ، فبيناهم كَذَلِكَ قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، فَأَطَافَ بِالْخَنْدَقِ، وَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَكَانَ قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنْهُ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَ بِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى رُمَاتِهِ، فَأَوْصَاهُمْ وَقَالَ:

إِنِّي أَرَى أَقْوَامًا لا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَارْمُوا عُيُونَهُمْ وَلا تَوَخُّوا غَيْرَهَا، فَرَمَوْا رَشْقًا وَاحِدًا، ثُمَّ تَابَعُوا، فَفُقِئَ أَلْفُ عَيْنٍ يَوْمَئِذٍ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ ذَاتَ الْعُيُونِ، وَتَصَايَحَ الْقَوْمُ: ذَهَبَتْ عُيُونُ أَهْلِ الأَنْبَارِ! فَقَالَ شِيرَزَاذُ: مَا يَقُولُونَ؟

فَفَسَّرَ لَهُ، فَقَالَ: آباذ آباذ فَرَاسَلَ خَالِدًا فِي الصُّلْحِ عَلى أَمْرٍ لَمْ يَرْضَهُ خَالِدٌ، فَرَدَّ رُسُلَهُ، وَأَتَى خَالِدٌ أَضْيَقَ مَكَانٍ فِي الْخَنْدَقِ بِرَذَايَا الْجَيْشِ فَنَحَرَهَا، ثُمَّ رَمَى بِهَا فِيهِ فَأَفْعَمَهُ، ثُمَّ اقْتَحَمَ الخندق- والردايا جُسُورُهُمْ- فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي الْخَنْدَقِ وَأَرَزَ القوم الى حصنهم، وراسل شيرزاد خَالِدًا فِي الصُّلْحِ عَلَى مَا أَرَادَ، فَقَبِلَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يُخَلِّيَهُ وَيُلْحِقَهُ بِمَأْمَنِهِ فِي جَرِيدَةِ خَيْلٍ، لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ وَالأَمْوَالِ شيء، فخرج شيرزاد، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى بهمنَ جَاذُوَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ لامَهُ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِي قَوْمٍ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ، وَأَصْلُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَمِعْتُهُمْ مَقْدَمَهُمْ عَلَيْنَا يَقْضُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّمَا قَضَى قَوْمٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَضَاءً إِلا وَجَبَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قاتلهم الجند،

<<  <  ج: ص:  >  >>