للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَعْيَوْكَ فَارْدُدْهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ رَحَّبَ بِهِمْ وَأَنْزَلَهُمْ كَنِيسَةً تُسَمَّى مَرْيَمَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ بِأَمْرِ عُثْمَانَ مَا كَانَ يُجْرَى عَلَيْهِمْ بِالْعِرَاقِ، وَجَعَلَ لا يَزَالُ يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لَكُمْ أَسْنَانٌ وَأَلْسِنَةٌ، وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ بِالإِسْلامِ شَرَفًا وَغَلَبْتُمُ الأُمَمَ وَحَوَيْتُمْ مَرَاتِبَهُمْ وَمَوَارِيثَهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ نَقِمْتُمْ قُرَيْشًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا لَوْ لَمْ تَكُنْ عُدْتُمْ أَذِلَّةً كَمَا كُنْتُمْ، إِنَّ أَئِمَّتَكُمْ لكم الى اليوم جنه فلا تشذوا عَنْ جُنَّتِكُمْ، وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمُ الْيَوْمَ يَصْبِرُونَ لَكُمْ عَلَى الْجَوْرِ، وَيَحْتَمِلُونَ مِنْكُمُ الْمَئُونَةَ، وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيَبْتَلِيَنَّكُمُ اللَّهُ بِمَنْ يَسُومُكُمْ، ثُمَّ لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاء لهم فِيمَا جَرَرْتُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ فِي حَيَاتِكُمْ وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ الْعَرَبِ وَلا أَمْنَعَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتُخَوِّفُنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْجُنَّةِ فَإِنَّ الْجُنَّةَ إِذَا اخْتُرِقَتْ خَلَصَ إِلَيْنَا.

فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَرَفْتُكُمُ الآنَ، عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي أَغْرَاكُمْ عَلَى هَذَا قِلَّةُ الْعُقُولِ، وَأَنْتَ خَطِيبُ الْقَوْمِ، وَلا أَرَى لَكَ عَقْلا، أُعَظِّمُ عَلَيْكَ أَمْرَ الإِسْلامِ، وَأُذَكِّرُكَ بِهِ، وَتُذَكِّرُنِي الْجَاهِلِيَّةَ! وَقَدْ وَعَظْتُكَ وَتَزْعُمُ لِمَا يَجِنُّكَ أَنَّهُ يُخْتَرَقُ، وَلا يُنْسَبُ مَا يُخْتَرَقُ إِلَى الْجُنَّةِ، أَخْزَى اللَّهُ أَقْوَامًا أَعْظَمُوا أَمْرَكُمْ، وَرَفَعُوا إِلَى خَلِيفَتِكُمْ! افْقَهُوا- وَلا أَظُنُّكُمْ تَفْقَهُونَ- أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَعِزَّ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ إِلا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ تَكُنْ بِأَكْثَرِ الْعَرَبِ وَلا أَشَدَّهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَكْرَمَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَمْحَضَهُمْ أَنْسَابًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَخْطَارًا، وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالنَّاسُ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا بِاللَّهِ الَّذِي لا يُسْتَذَلُّ مَنْ أَعَزَّ، وَلا يُوضَعُ مَنْ رَفَعَ، فَبَوَّأَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُتَخَطَّفُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِمْ! هَلْ تَعْرِفُونَ عُرْبًا أَوْ عُجْمًا أَوْ سُودًا أَوْ حُمْرًا إِلا قَدْ أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي بَلَدِهِ وَحُرْمَتِهِ بِدَوْلَةٍ، إِلا مَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِكَيْدٍ إِلا جَعَلَ الله

<<  <  ج: ص:  >  >>