إن إحدى الهيئات المختصة بإقراض الجهات القائمة على بناء المساكن قد طلبت منا إبرام عقد للتأمين ضد الحريق كشرط يتوقف عليه قيام هذه الهيئة بإقراضنا المال اللازم لإنشاء المباني التي تزمع جمعيتنا إنشاءها وطلب السائل بيان الحكم الشرعي فيما إذا كان يجوز للجمعية إبرام هذا العقد ضد الحريق شرعا أم لا يجوز؟ وهل يدخل هذا العقد ضمن عقود الغرر؟
الجواب
المعروف أن وثيقة التأمين ضد الحريق التي تصدرها شركات التأمين في مصر تحتوي على بند مضمونه (تتعهد الشركة بتعويض المؤمن له أو ورثته أو منفذي وصيته أو مديري تركته كل تلف مادى بسبب الحريق بالعين المؤمن عليها طبقا للشروط العامة والخاصة الواردة بهذه الوثيقة) ونصت المادة ٧٦٦ من التقنين المدنى المصرى على أنه: (في التأمين ضد الحريق يكون المؤمن مسئولا عن كافة الأضرار الناشئة عن حريق أو عن بداية حريق يمكن أن تصبح حريقا كاملا أو عن خطر حريق يمكن أن يحقق والتأمين ضد الحريق على هذا يكون مقصودا به تعويض المؤمن عليه عن خسارة تلحق ذمته المالية بسبب الحريق) وتطبيقا لنصوص هذا القانون ينشئ عقد التأمين التزامات على عاتق كل من المؤمن والمؤمن له إذ على هذا الأخير أن يدفع أقساط التأمين وعلى الأول أن يدفع للمؤمن له العوض المالي أو المبلغ المؤمن به ومع هذا فهو من الوجهة القانونية يعتبر عقدا احتماليا حيث لا يستطيع أي من العاقدين أو كلاهما وقت العقد معرفة مدى ما يعطى أو يأخذ بمقتضاه فلا يتحدد مدى تضحيته إلا في المستقبل تبعا لأمر غير محقق الحصول أو غير معروف وقت حصوله وإذا كان واقع عقد التأمين من وجهة هذا القانون أنه يعتبر عملية احتمالية حيث جاءت أحكامه في الباب الرابع من كتاب العقود تحت عنوان: عقود الغرر لأن مقابل القسط ليس أمرا محققا فإذا لم يتحقق الخطر فإن للمؤمن أن يدفع شيئا ويكون هو الكاسب مع القسط إذا تحقق الخطر ووقع الحريق مثلا فسيدفع المؤمن إلى المؤمن له مبلغا لا يتناسب مع القسط المدفوع ويكون هذا الأخير هو صاحب الحظ الأوفى في الأخذ وبذلك يتوقف أيهما الآخذ ومقدار ما يأخذه من عملية التأمين على الصدفة وحدها وإذا كان عقد التأمين ضد الحريق بهذا الوصف في القانون الذي يحكمه تعين أن نعود إلى صور الضمان والتضمين في الشريعة الإسلامية لنحتكم إليها في مشروعية هذا العقد أو مخالفته لقواعدها وإذا كان المعروف في الشريعة الغراء أنه لا يجب على أحد ضمان مال لغيره بالمثل أو بالقيمة إلا إذا كان قد استولى على هذا المال بغير حق أو إضاعة على صاحبه أو أفسد عليه الانتفاع به بحرقه أو بتمزيقه أو هدمه مثلا أو تسبب في إتلافه كما لو حفر حفرة في الطريق فسقطت فيها سيارة أو حيوان أو وضع يدا غير مؤتمنة على مال كيد البائع بعد البيع أو يد السارق أو غر شخصا كان طلب منه أن يسلك طريقا مؤكدا له أنه آمن فأخذ اللصوص ماله فيه أو كفل أداء هذا المال ولا شيء من ذلك بمتحقق في التأمين ضد الحريق بل وغيره من أنواع التأمين التجاري حيث يقضى التعاقد أن تضمن الشركة لصاحب المال ما يهلك أو يتلف أو يضيع بغرق أو حرق أو بفعل اللصوص وقطاع الطرق كما أن المؤمن لا يعد كفيلا بمعنى الكفالة الشرعية وتضمين الأموال بالصورة التي يحملها عقد التأمين محفوف بالغبن والحيف والغرر ولا تقر الشريعة كسب المال بأي من هذه الطرق وأشباهها لأنها لا تبيح أكل أموال الناس بغير الحق قال الله تعالى
(سورة:٢, آية:١٨٨)
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
وقوله تعالى
(سورة:٤, آية:٢٩)
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
وإنما تبيح العقود التي لا غرر فيها ولا ضرر بأحد أطرافها وفي عقد التأمين غرر وضرر محقق بأحد الأطراف لأن كل عمل شركة التأمين أنها تجمع الأقساط من المتعاقدين معها وتحوز من هذه الأقساط رأس مال كبير تستثمره في القروض الربوية وغيرها ثم تدفع من أرباحه الفائقة الوفيرة ما يلزمها به عقد التأمين من تعويضات عن الخسائر التي لحقت الأموال المؤمن عليها مع أنه ليس للشركة دخل في أسباب هذه الخسارة لا بالمباشرة ولا بالتسبب فالتزامها بتعويض الخسارة ليس له وجه شرعي كما أن الأقساط التي تجمعها من أصحاب الأموال بمقتضى عقد التأمين لا وجه لها شرعا أيضا وكل ما يحويه عقد التأمين من اشتراطات والتزامات فاسد والعقد إذا اشتمل على شرط فاسد كان فاسدا والمراد من الغرر في هذا المقام المخاطرة كما جاء في موطأ أو ما يكون مستور العاقبة كما جاء في مبسوط السرخسي وهذا متوفر في عقد التأمين لأنه في الواقع عقد بيع مال بمال وفيه غرر فاحش والغرر الفاحش يؤثر على عقود المعاوضات المالية في الشريعة باتفاق الفقهاء ولا خلاف إلا في عقود المعاوضات غير المالية وهو قمار معنى لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع ذلك يكون مبناه الاعتماد على الخطر فيما يحصل عليه أي من المتعاقدين ومع هذا ففي عقد التأمين تعامل بالربا الذي فسره العلماء بأنه زيادة بلا مقابل في معاوضة مال بمال والفائدة في نظام التأمين ضرورة من ضرورياته ولوازمه وليست شرطا يشترط فقط في العقد فالربا في حساب الأقساط حيث يدخل سعر الفائدة وعقد التأمين محلة عبارة عن الأقساط مضافا إليها فائدتها الربوية وتستثمر أموال التأمين في الأغلب أو على الأقل احتياطها بسعر الفائدة وهذا ربا وفي معظم حالات التأمين - (حالة تحقق أو عدم تحقق الخطر المؤمن ضده) يدفع أحد الطرفين قليلا ويأخذ كثيرا أو لا يدفع ويأخذ وهذا ربا وفي حالة التأخير في سداد أي قسط يكون المؤمن له ملزما بدفع فوائد التأخير وهذا ربا النسيئة وهو حرام شرعا قطعا وإذا كان التأمين ضد الحريق من عقود الغرر - بحكم التقنين المدنى المعمول به في مصر فضاق عما فيها من معنى القمار ومن الغبن ومن الشروط الفاسدة وكان القمار وعقود الغرر من المحرمات شرعا بأدلتها المبسوطة في موضعها من كتب الفقه كان هذا العقد بواقعة وشروطه التي يجرى عليها التعامل الآن من العقود المحظورة شرعا ولما كان المسلم مسئولا أمام الله سبحانه عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي ونصه:
لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه
وجب على المسلمين الالتزام بالمعاملات التي تجيزها نصوص الشريعة وأصولها والابتعاد عن الكسوب المحرمة أيا كانت أسماؤها ومغرياتها