[الدورة الأولى]
[القرار الخامس]
السؤال
هل التأمين التجاري حرام؟
الجواب
بعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية:
الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعارضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطا أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن وقد لا تقع الكارثة أصلا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
النهي عن بيع الغرر
الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى:
(سورة:٥, آية:٩٠)
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون
والآية بعدها
الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسيئة فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل والمؤمن يدفع للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط وكلاهما محرم بالنص والإجماع
الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم
لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل
وليس التأمين من ذلك ولا شبيها به فكان محرما
الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل والأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى:
(سورة:٤, آية:٢٩)
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعا فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن فكان حراما وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقا أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي:
(أ) الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة
(ب) الإباحة الأصلية لا تصلح دليلا هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم المناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها
(ج) الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال بها هنا فإن ما أباحة الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين
(د) لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبني عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في إيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها
(هـ) الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين وإن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدا وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته وإن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد
(و) قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع
(ز) قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق ومن الفروق أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبا أو من مكارم الأخلاق بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر
(ح) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضا ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منه أولا الكسب المادي فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه
(ط) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله
(ي) قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضا لأن ما يعطي من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة ووضع له نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعارضات المالية بين الدولة وموظفيها وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقا التزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاونا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة
(ك) قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينها وبين القاتل خطأ أو شبه عمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون واسداء المعروف ولو دون مقابل وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة
(ل) قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضا ومن الفروق أن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس
(م) قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضا فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمانينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف في عقد الإيداع بأجر
(ن) قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (٥١) وتاريخ ٤/٤/١٣٩٧ هـ من جواز التأمين التعاوني بدلا عن التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفا للأدلة الآتية:
الأول: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحا من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسيئة فليست عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية
الثالث: إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية
الرابع: قيام جماعة من المساهيمن أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء أكان القيام بذلك تبرعا أم مقابل أجر معين ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية:
أولا: الالتزام بالفكر الاقتصادي الإسلامي الذي يترك للأفراد مسئولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ولا يأتي دور الدولة إلا كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به وكدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها
ثانيا: الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذي ومسئولية إدارة المشروع
ثالثا: تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية فلا شك أن مشاركة الأهالي في الإدارة تجعلهم أكثر حرصا ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يرفعون مجتمعين تكلفة تعويضها مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاوني إذ إن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل كما أن وقوعها قد يحملهم أقساطا أكبر في المستقبل
رابعا: إن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسئولية ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني على الأسس الآتية:
الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فروع في كافة المدن وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحي وثان للتأمين ضد العجز والشيخوخة.. إلخ أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين وآخر للتجار وثالث للطلبة ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين ... إلخ
الثاني: أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة والبعد عن الأساليب المعقدة
الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقن مع قواعد الشريعة
الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس من تختاره من الأعضاء ويمثل المساهمين من يختارونه ليكونوا أعضاء في المجلس ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل
الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة ويؤيد مجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في اقراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن