أنه لما كان حب المحمدة على الطاعة والتزين بها في الدنيا غالبا على قلوب العباد قال: إن ذلك هو الزهد، بمعنى أنه إذا زهد فيها فهو فيما سواها أزهد.
وقال سفيان بن عيينة منهم ورواه عن الزهري: الزهد من غلب صبره الحرام وشكره الحلال. وهذا ليس بالزهد وإنما هو صفة الزاهد، لأن من كان بهذه الصفة فهو زاهد، فهي معنى تكون عن الزهد؛ لأنه إذا زهد قوي صبره عن الحرام فلم يركن إليه، وقوي شكره على الحلال فلم تشغله حلاوته عن الشكر.
وقال الفضيل بن عياض وغيره منهم: الزهد الترك للدنيا. وليس الترك للدنيا هو الزهد، ولكنه كائن عنه؛ لأنه إذا زهد في الدنيا تركها. وليس قوله الترك للدنيا على عمومه؛ لأن من أحوال الدنيا ما لا يجوز تركه، فلو قال: الزهد ترك ما لا قربة فيه من أحوال الدنيا؛ لكان في العبارة عما قصد إليه أولى، وقد قارب الحقيقة في الزهد، إذ جعله المعنى الذي يكون عن الزهد، وهو فائدته التي تقربه من الله عز وجل.
ومنهم من قال: الزهد أن يكون الرجل بما في يد الله أوثق مما بيده، فجعل الزهد بعض التوكل لما كانت الثقة بما في يد الله دون ما بيده تبعث الواثق بذلك على ألا يدخر ما بيده فيقدمه لآخرته. وليس ذلك بصحيح، إذ قد يكون الرجل بما في يد الله أوثق مما في يده ومع هذا فيدخره ليتنعم به أو يتصدق به للمحمدة والثناء فيكون راغبا فيه. وقد يتصدق به لله لا للمحمدة فيكون زاهدا فيه. وليس التصدق به لله هو الزهد نفسه، ولكنه عن الزهد كان.
ومنهم قال: الزهد بغض للدنيا، وذلك أن الله عز وجل ذم الحب لها فقال:{تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}[القيامة: ٢٠] والبغض ضد الحب فسمي الزهد به، وذلك إذا أبغضها لاحتقاره لها، وصغر شأنها عنده، إذ قد يبغض الرجل الدنيا لضر نزل به فيها وخطرها عنده عظيم. فليس الزهد في الدنيا ضد الحب لها على الإطلاق، وإنما هو ضد الرغبة فيها، لأن الراغب فيها إنما يرغب فيها لعظم شأنها عنده. والاحتقار لها