الكفاف أفضل، ومنهم من توقف في ذلك فلم ير المفاضلة فيه. وهذا فيمن كان يؤدي ما لله عليه من حق في حال الفقر لفقره، وفي حال الغنى لغناه؛ لأن من كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الفقر، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الغنى، فلا اختلاف في أن الفقر أفضل له من الغنى. ومن كان يؤدي حق الله الواجب في الغنى، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الفقر، فلا اختلاف في أن الغنى أفضل له، لأن الفضل في الفقر والغنى ليس لذاتهما، وإنما هو لما يكتسب بسبب كل واحد منهما مما يؤجر عليه، فيكتسب بسبب الفقر الصبر والرضا بما قسم الله له منه، والشكر لله تعالى على ذلك والتصرف والخدمة فيما يلزمه من نفقته وكسوته، ونفقة من يلزمه الإنفاق عليهم وكسوتهم فيؤجر على ذلك. ويكتسب بسبب المال الصبر على إنفاقه في الواجبات، وما يندب إليه من القربات، مع حبه إياه. قال الله عز وجل:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}[البقرة: ١٧٧] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة: ١٧٧] وقال عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان: ٨] والشكر لله تعالى على ما آتاه من فضله، فيؤجر على ذلك كله كالصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنه كان منهم الفقير والغني ومن أغناه الله من فضله بعد أن كان فقيرا، فكانوا كلهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - محمودين في حال الفقر وفي حال الغنى، لأنهم صبروا في حال الفقر على ضيق العيش وشكروا الله تعالى على ذلك وقنعوا بما أعطوا، وآثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لم يعلم مقداره إلا الله تعالى، وشكروا الله تعالى في حال الغنى على ما آتاهم من فضله، ووسع عليهم من رزقه، وأدوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات الواجبات، وقاموا بما يلزمهم القيام به من النوائب اللازمات، وتطوعوا لوجه الله بما لا يلزمهم من القرب والصدقات، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل خالق الأرض والسماوات.