كَفَّارَةُ يَمِينٍ) أَيْ مِثْلُهَا حَالًا وَلَوْ لَمْ يَطَأْهَا كَمَا لَوْ قَالَهُ لِأَمَتِهِ أَخْذًا مِنْ قِصَّةِ مَارِيَةَ النَّازِلِ فِيهَا ذَلِكَ عَلَى الْأَشْهَرِ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَرَوَى النَّسَائِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا: أَيْ وَهِيَ مَارِيَةُ أُمُّ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: ١] الْآيَةَ» ، وَمَعْنَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: ٢] أَيْ أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ الْكَفَّارَةَ الَّتِي تَجِبُ فِي الْأَيْمَانِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا صَرَّحَا بِهِ أَوَّلَ الظِّهَارِ وَبِهِ يُرَدُّ بَحْثُ الْأَذْرَعِيِّ حُرْمَتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاءِ وَالْكَذِبِ وَنِزَاعُ ابْنِ الرِّفْعَةِ فِيهَا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَهُوَ لَا يَفْعَلُ الْمَكْرُوهَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَلَا يَكُونُ مَكْرُوهًا فِي حَقِّهِ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَفَارَقَ الظِّهَارَ بِأَنَّ مُطْلَقَ التَّحْرِيمِ بِجَامِعِ الزَّوْجِيَّةِ، بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ الْمُشَابِهِ لِتَحَرُّمِ الْأُمِّ فَكَانَ كَذِبًا مُعَانِدًا لِلشَّرْعِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ كَبِيرَةً فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ حَرَامًا وَالْإِيلَاءُ بِأَنَّ الْإِيذَاءَ فِيهِ إثْمٌ، وَمِنْ ثَمَّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَالرَّفْعُ لِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعٍ أَنْتُنَّ عَلَيَّ حَرَامٌ بِلَا نِيَّةِ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ كَرَّرَ فِي وَاحِدَةٍ وَأَطْلَقَ أَوْ بِنِيَّةِ التَّأْكِيدِ وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمَجْلِسُ كَالْيَمِينِ (وَكَذَا) عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ (إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي الْأَظْهَرِ) لِأَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ يُصْرَفُ شَرْعًا لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ (وَالثَّانِي) هُوَ (لَغْوٌ) لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي ذَلِكَ، وَخَرَجَ بِأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مَا لَوْ حَذَفَ عَلَيَّ فَيَكُونُ كِنَايَةً فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ
ــ
[حاشية الشبراملسي]
قَوْلُهُ: فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ) ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ بَعْدَ كَلَامِ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ مَعًا، وَفِي حَاشِيَةِ شَيْخِنَا الزِّيَادِيِّ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى حَفْصَةَ فَلَمْ يَجِدْهَا وَكَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ إلَى بَيْتِ أَبِيهَا، فَدَعَا أَمَتَهُ مَارِيَةَ إلَيْهِ فَأَتَتْ حَفْصَةُ وَعَرَفَتْ الْحَالَ فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَعَلَى فِرَاشِي؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَسْتَرْضِيهَا: إنِّي أُسِرُّ إلَيْك سِرًّا فَاكْتُمِيهِ، هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَوَرَدَتْ الْآيَاتُ» اهـ (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ نِيَّةُ تَحْرِيمِ عَيْنِهَا (قَوْلُهُ: وَفَارَقَ) أَيْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ (قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ) أَيْ الظِّهَارُ (قَوْلُهُ كَالْيَمِينِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِهِ بِاَللَّهِ أَوْ بِالطَّلَاقِ فِي مَجِيءِ هَذَا التَّفْصِيلِ وَهُوَ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ: وَخَرَجَ بِأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إلَخْ) بَقِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَخْرُجُ بِهِ مَا لَوْ حَذَفَ أَنْتِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ الْحَرَامُ، وَقُوَّةِ كَلَامِهِ حَيْثُ جَعَلَ صُوَرَ الْكَفَّارَةِ مَنُوطَةً بِالْخِطَابِ بِنَحْوِ أَنْتِ أَوْ نَحْوِ يَدُك أَوْ حَرَّمْتُك تُعْطِي أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا أَفْتَى بِهِ وَالِدُهُ كَالشَّرَفِ الْمُنَاوِيِّ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَكِنْ فِي فَتَاوَى الشَّرْحِ أَنَّ عَلَيَّ الْحَرَامُ وَالْحَرَامُ يَلْزَمُنِي كِنَايَةٌ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ حَيْثُ كَانَ لَهُ وَجْهٌ وَتَجِبُ بِالتَّلَفُّظِ اهـ.
[مَسْأَلَةٌ] :
فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ تَكُونِي طَالِقًا هَلْ تَطْلُقُ أَمْ لَا لِاحْتِمَالِ هَذَا اللَّفْظِ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، وَهَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ، وَإِذَا قُلْتُمْ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي الْحَالِ فَمَتَى يَقَعُ أَبِمُضِيِّ لَحْظَةٍ أَمْ لَا يَقَعُ أَصْلًا لِأَنَّ الْوَقْتَ مُبْهَمٌ؟ وَالْجَوَابُ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كِنَايَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ طَلُقَتْ أَوْ التَّعْلِيقَ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَهُوَ وَعْدٌ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ بَحَثَ بَاحِثٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: الْكِنَايَةُ مَا احْتَمَلَ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَقُلْت بَلْ هُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ وَالْوَعْدِ، فَقَالَ: إذَا قَصَدَ الِاسْتِقْبَالَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ فَقُلْت لَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْلِيقِ، وَلَا بُدَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ مِنْ ذِكْرِ الْمُعَلَّقِ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، قَالَ: هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ تَكُونِي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَادِثِ وَالزَّمَانِ، قُلْت: دَلَالَتُهُ عَلَيْهِمَا لَيْسَتْ بِالْوَضْعِ وَلَا لَفْظِيَّةً وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ إنَّ الْفِعْلَ وُضِعَ لِحَدَثٍ مُقْتَرِنٍ بِزَمَانٍ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّهُ وُضِعَ لِلْحَادِثِ وَالزَّمَانِ.
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ بِأَنَّ الدَّلَالَاتِ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ ثَلَاثٌ: لَفْظِيَّةٌ وَصِنَاعِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، فَالْأُولَى كَدَلَالَةِ
[حاشية الرشيدي]
قَوْلُهُ: النَّازِلُ فِيهَا) أَيْ فِي مُطْلَقِ الْأَمَةِ، وَعِبَارَةُ التُّحْفَةِ: كَمَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَخْذًا مِنْ قِصَّةِ مَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute