وَالْبَيْهَقِيُّ خَبَرَ «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ» وَفَسَّرَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ عَرَفَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، وَالْأَخِيرَانِ بِمَنْ عَرَفَ وَجَارَ وَمَنْ قَضَى عَلَى جَهْلٍ، وَاَلَّذِي يَسْتَفِيدُهُ بِالْوِلَايَةِ إظْهَارُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَإِمْضَاؤُهُ فِيمَا يُرْفَعُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُفْتِي مُظْهِرٌ لَا مُمْضٍ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْقِيَامُ بِحَقِّهِ أَفْضَلَ مِنْ الْإِفْتَاءِ (هُوَ) أَيْ قَبُولُهُ مِنْ مُتَعَدِّدِينَ صَالِحِينَ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) بَلْ هُوَ أَسْنَى فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ حَتَّى ذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى الْجِهَادِ وَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ مَعَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهِ لِأَنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّظَالُمِ وَقَلَّ مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ، وَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ مُشْتَغِلٌ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ فَوَجَبَ مَنْ يَقُومُ بِهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ الصَّالِحُونَ لَهُ أَثِمُوا وَأَجْبَرَ الْإِمَامُ أَحَدَهُمْ.
أَمَّا تَقْلِيدُهُ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْإِمَامِ فَوْرًا فِي قَضَاءِ الْإِقْلِيمِ، وَيَتَعَيَّنُ فِعْلُ ذَلِكَ عَلَى قَاضِي الْإِقْلِيمِ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ كَمَا يَأْتِي، وَلَا يَجُوزُ إخْلَاءُ مَسَافَةِ الْعَدْوَى عَنْ قَاضٍ أَوْ خَلِيفَةٍ لَهُ لِأَنَّ الْإِحْضَارَ مِنْ فَوْقِهَا مُشِقٌّ، وَبِهِ فَارَقَ اعْتِبَارَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بَيْنَ كُلِّ مُفْتِيَيْنِ أَمَّا إيقَاعُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ إذَا أَفْضَى لِتَعْطِيلٍ أَوْ طُولِ نِزَاعٍ، وَمِنْ صَرِيحِ التَّوْلِيَةِ وَلَّيْتُك أَوْ قَلَّدْتُك أَوْ فَوَّضْت إلَيْك الْقَضَاءَ، وَمِنْ كِنَايَتِهَا عَوَّلْت وَاعْتَمَدْت عَلَيْك فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ لَفْظًا بَلْ يَكْفِي فِيهِ الشُّرُوعُ بِالْفِعْلِ كَالْوَكِيلِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، نَعَمْ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
(فَإِنْ تَعَيَّنَ) لَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ (لَزِمَهُ) (طَلَبُهُ) وَلَوْ بِمَالٍ قَدَرَ عَلَيْهِ فَاضِلًا عَمَّا يُعْتَبَرُ فِي الْفِطْرَةِ فِيمَا يَظْهَرُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَخَافَ الْمَيْلَ أَمْ لَا، عَلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ عَالِمٌ بِهِ وَلَمْ يَطْلُبْهُ مِنْهُ أَمْ لَا، بَلْ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَالْقَبُولُ وَالتَّحَرُّزُ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنْ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ مُفَسَّقًا لِأَنَّهُ غَالِبًا إنَّمَا يَكُونُ بِتَأْوِيلٍ، وَالْأَقْرَبُ وُجُوبُ الطَّلَبِ وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَ الْإِجَابَةِ خِلَافًا لِلْأَذْرَعِيِّ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ يَجِبُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ عَلِمَ عَدَمَ امْتِثَالِهِمْ لَهُ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ (فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ) نُدِبَ لِلْأَصْلَحِ طَلَبُهُ وَقَبُولُهُ حَيْثُ وَثِقَ بِنَفْسِهِ (وَكَانَ) الْأَصْلَحُ (يَتَوَلَّاهُ) أَيْ يَقْبَلُهُ إذَا وَلِيَهُ (فَلِلْمَفْضُولِ الْقَبُولُ) إذَا بُذِلَ لَهُ بِلَا طَلَبٍ وَتَنْعَقِدُ تَوْلِيَتُهُ كَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى (وَقِيلَ لَا) يَجُوزُ لَهُ الْقَبُولُ فَلَا تَنْعَقِدُ تَوْلِيَتُهُ وَتَحْرُمُ لِخَبَرِ الْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِمِ «مَنْ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ
ــ
[حاشية الشبراملسي]
قَوْلُهُ: وَإِمْضَاؤُهُ) عَطْفٌ مُغَايِرٌ (قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ أَسْنَى) أَيْ أَعْلَى (قَوْلُهُ: أَمَّا تَقْلِيدُهُ) أَيْ تَوْلِيَتُهُ لِمَنْ يَقُومُ بِهِ (قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ إخْلَاءُ مَسَافَةِ الْعَدْوَى) وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ فَوَّضَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الِاسْتِخْلَافَ كَقَاضِي الْإِقْلِيمِ.
(قَوْلُهُ: فَاضِلًا عَمَّا يُعْتَبَرُ فِي الْفِطْرَةِ) ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَثُرَ الْمَالُ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي صَرَّحُوا فِيهَا بِسُقُوطِ الْوُجُوبِ حَيْثُ طُلِبَ مِنْهُ مَالٌ وَإِنْ قَلَّ أَنَّ الْقَضَاءَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَ بَذْلُهُ لِلْقِيَامِ بِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهُ (قَوْلُهُ: وَلَيْسَ مُفَسِّقًا) أَيْ الِامْتِنَاعُ (قَوْلُهُ فَلِلْمَفْضُولِ الْقَبُولُ) ظَاهِرُهُ مَعَ انْتِفَاءِ الْكَرَاهَةِ، وَالْقِيَاسُ ثُبُوتُهَا لِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْقَبُولِ، وَقَدْ يَقْتَضِي قَوْلُهُ الْآتِي وَلَهُ الْقَبُولُ مَعَ كَرَاهَةِ ثُبُوتِهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (قَوْلُهُ: مَنْ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ تَوَلَّى أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْعِيًّا
[حاشية الرشيدي]
قَوْلُهُ أَيْ قَبُولُهُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فَفِيهِ اسْتِخْدَامٌ وَنَازَعَهُ ابْنُ قَاسِمٍ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ هَذَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُرُودِ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى قَبُولِهِ وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَهَذَا غَيْرُ الِاسْتِخْدَامِ (قَوْلُهُ: أَيْ قَبُولُهُ) لَعَلَّهُ بِمَعْنَى التَّلَبُّسِ بِهِ وَإِلَّا فَسَيَأْتِي أَنَّ قَبُولَهُ لَفْظًا غَيْرُ شَرْطٍ (قَوْلُهُ: أَمَّا إيقَاعُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ) أَيْ بَعْدَ تَدَاعِيهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ: عَلَى الْإِمَامِ) يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ لَهُ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ: أَوْ نَائِبِهِ) أَيْ مِنْ الْقُضَاةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ
(قَوْلُهُ: وَلَيْسَ مُفَسَّقًا) لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَإِلَّا فَالتَّعْلِيلُ لَا يُسَاعِدُ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ (قَوْلُهُ: نُدِبَ لِلْأَصْلَحِ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ حَيْثُ أَتَى بِهَذَا الْجَوَابِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَرْطٍ يَكُونُ مَا سَيَأْتِي فِي الْمَتْنِ جَوَابًا لَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ فَإِنْ سَكَتَ قُبَيْلَ قَوْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute