«اسْتَقِيمُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَسَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى إيمَانًا، فَقَالَ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: ١٤٣] أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلِأَنَّهَا تَجْمَعُ مِنْ الْقُرَبِ مَا تَفَرَّقَ فِي غَيْرِهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَاللُّبْثِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالطَّهَارَةِ وَالسُّتْرَةِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ اخْتِصَاصِهَا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ الصَّوْمُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» لِأَنَّهُ لَمْ يُتَقَرَّبْ إلَى أَحَدٍ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَحَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ خُلُوَّ الْجَوْفِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَرْجِعُ إلَى الصَّمَدِيَّةِ، لِأَنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَالصَّمَدِيَّةُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَحَسُنَتْ الْإِضَافَةُ لِاخْتِصَاصِ الصَّوْمِ بِصِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِخْلَاصِ لِخَفَائِهِ دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا أَعْمَالٌ ظَاهِرَةٌ يُطَّلَعُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ الرِّيَاءُ فِيهَا أَغْلَبَ، فَحَسُنَتْ الْإِضَافَةُ لِلشَّرَفِ الَّذِي حَصَلَ لِلصَّوْمِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَفْضَلُهَا الطَّوَافُ، وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ، وَقَالَ الْقَاضِي: الْحَجُّ أَفْضَلُ، وَقَالَ ابْنُ عَصْرُونٍ: الْجِهَادُ أَفْضَلُ. وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: الْعِبَادَاتُ تَخْتَلِفُ أَفْضَلِيَّتُهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَفَاعِلِيهَا، فَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَفْضَلِيَّةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُبْزَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْجَائِعِ وَالْمَاءُ أَفْضَلُ لِلْعَطْشَانِ، فَإِنَّ اجْتَمَعَا نُظِرَ لِلْأَغْلَبِ فَتَصَدُّقُ الْغَنِيِّ الشَّدِيدِ الْبُخْلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامٍ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ حُبِّ الدُّنْيَا، وَالصَّوْمُ لِمَنْ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَلِي الصَّلَاةَ الصَّوْمُ ثُمَّ الْحَجُّ ثُمَّ الزَّكَاةُ وَقِيلَ الزَّكَاةُ بَعْدَهَا.
وَالْخِلَافُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ أَحَدِهِمَا مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْآكَدِ مِنْ الْآخَرِ، وَإِلَّا فَصَوْمُ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ بِلَا شَكٍّ، وَخَرَجَ بِعِبَادَاتِ الْبَدَنِ عِبَادَاتُ الْقَلْبِ: كَالْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ
ــ
[حاشية الشبراملسي]
الْأَعْمَالَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حَقِيقَتُهُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا مُكَمِّلَاتٌ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ الصَّوْمُ) مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ إلَخْ (قَوْلُهُ: عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ) وَمِنْهَا أَنَّهُ الَّذِي يُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ (قَوْلُهُ: وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ) مِنْ الْبَعْضِ حَجّ فَإِنَّهُ جَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِهِ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ اعْتِمَادُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
(قَوْلُهُ: وَقِيلَ الزَّكَاةُ بَعْدَهَا) أَيْ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ هِيَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ زِيَادِيٌّ: أَيْ وَعَلَيْهِ فَاَلَّذِي يَلِيهَا الصَّوْمُ ثُمَّ الْحَجُّ (قَوْلُهُ: مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْآكَدِ) وَمِنْهُ الرَّوَاتِبُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدَةِ، وَمِنْ ثَمَّ عَبَّرَ بِالْآكَدِ دُونَ الْمُؤَكَّدِ فَلْيُتَأَمَّلْ. اهـ سم عَلَى حَجّ. (قَوْلُهُ: عِبَادَاتُ الْقَلْبِ) أَيْ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ (قَوْلُهُ: وَالتَّفَكُّرُ) أَيْ فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ.
قَالَ سم عَلَى حَجّ: ظَاهِرُهُ، وَإِنْ قَلَّ التَّفَكُّرُ سَاعَةً مَعَ صَلَاةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَالتَّوَكُّلُ) أَيْ التَّفْوِيضُ إلَى اللَّهِ فِي الْأُمُورِ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ مَعَ تَيَسُّرِ الْأَسْبَابِ (قَوْلُهُ: وَالصَّبْرُ) أَيْ وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَةِ وَمَنْعُهَا
[حاشية الرشيدي]
بِالْقَلْبِ وَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ (قَوْلُهُ: وَالْخِلَافُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ إلَخْ) عِبَارَةُ الدَّمِيرِيِّ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمٍ فَإِنَّ صَوْمَ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الصَّوْمِ وَمِنْ الصَّلَاةِ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَقْتَصِرَ مِنْ الْآخَرِ عَلَى الْمُتَأَكَّدِ مِنْهُ فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ وَالصَّحِيحُ تَفْضِيلُ جِنْسِ الصَّلَاةِ. (قَوْلُهُ: وَخَرَجَ بِعِبَادَاتِ الْبَدَنِ) أَيْ فِي قَوْلِهِ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ (قَوْلُهُ: عِبَادَاتُ الْقَلْبِ) أَيْ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشِّهَابُ حَجّ. قَالَ الشِّهَابُ سم: وَظَاهِرُهُ وَإِنْ قَلَّ كَتَفَكُّرِ سَاعَةٍ مَعَ صَلَاةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute