كَذَلِكَ كَمَا اعْتَمَدَهُ الْوَالِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ نَارَ الطَّبْخِ أَشَدُّ مِنْ نَارِ التَّسْخِينِ، فَإِذَا لَمْ تُزِلْ نَارُ الطَّبْخِ الْكَرَاهَةَ فَلَأَنْ لَا تُزِيلَهَا نَارُ التَّسْخِينِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُمْ إنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْمُسَخَّنُ بِالنَّارِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ كَرَاهَةِ مَا سَخُنَ بِالنَّارِ وَلَوْ بِنَجَاسَةٍ مُغَلَّظَةٍ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ وَقْفَةٌ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَهْيٍ عَنْهُ وَلِذَهَابِ الزُّهُومَةِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا.
لَا يُقَالُ إنَّ اخْتِلَاطَ ذَلِكَ فِي الطَّعَامِ الْمَائِعِ تَفَرَّقَتْ بِهِ أَجْزَاءُ السُّمِّيَّةِ بِأَجْزَائِهِ فَلَا تَقْدِرُ النَّارُ حِينَئِذٍ عَلَى دَفْعِهَا بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ ذَلِكَ، إذْ شِدَّةُ غَلَيَانِهِ تَقْتَضِي إخْرَاجَهَا وَلَمْ يُرَاعَ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَا يُكْرَهُ إنْ عُدِمَ غَيْرُهُ فَيَجِبُ شِرَاؤُهُ حِينَئِذٍ إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ لِلطَّهَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ، وَتَرَتُّبُ الضَّرَرِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ وَلَا مَظْنُونٍ إلَّا فِي جِنْسِهِ عَلَى نُدُورٍ، بِخِلَافِ السُّمِّ فَإِنَّ ضَرَرَهُ مُحَقَّقٌ، نَعَمْ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا الْمُشَمَّسُ يَضُرُّهُ بِقَوْلِ طَبِيبٍ عَدْلِ الرِّوَايَةِ أَوْ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ، فَقِيَاسُ مَا ذَكَرُوهُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَوْفِ مَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ أَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ.
وَالْأَفْضَلُ تَرْكُ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ إنْ تَيَقَّنَ غَيْرَهُ آخِرَ الْوَقْتِ، وَلَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي حَيَوَانٍ غَيْرِ آدَمِيٍّ فَإِنْ لَحِقَ الْآدَمِيُّ مِنْهُ ضَرَرٌ أَوْ كَانَ مِمَّا يُدْرِكُهُ الْبَرَصُ كُرِهَ وَإِلَّا فَلَا، وَيُكْرَهُ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ لِمَنْعِهِمَا الْإِسْبَاغَ، وَكُلُّ مَاءٍ غَضَبٌ عَلَى أَهْلِهِ، وَالْأَوْجَهُ كَرَاهَةُ تُرَابِهَا أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ فَالْمِيَاهُ الْمَكْرُوهَةُ ثَمَانِيَةٌ: الْمُشَمَّسُ، وَشَدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَشَدِيدُ الْبُرُودَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ ثَمُودَ إلَّا بِئْرَ النَّاقَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمَاءُ بِئْرِ بَرَهُوتَ،
ــ
[حاشية الشبراملسي]
قَوْلُهُ: وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ) مُرَادُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ وَقَوْلُهُ لِعَدَمِ عِلَّةٍ لِقَوْلِهِ عَدَمُ كَرَاهَةِ مَا سَخُنَ إلَخْ وَقَوْلُهُ فِيهِ وَقْفَةٌ: أَيْ لِفُحْشِ أَمْرِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ (قَوْلُهُ: فَيَجِبُ شِرَاؤُهُ) فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ وَلَمْ يَضِقْ لَا يَجِبُ شِرَاؤُهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْأَفْضَلَ عَدَمُ اسْتِعْمَالِهِ إلَّا إنْ تَيَقَّنَ إلَخْ (قَوْلُهُ: أَوْ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ) أَيْ بِسَبَبِ الطِّبِّ لَا بِالتَّجَارِبِ (قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ) أَيْ بَلْ يَجِبُ انْتَهَى ابْنُ قَاسِمٍ، وَلَا يُنَافِيه تَعْبِيرُ الشَّارِحِ بِالْجَوَازِ لِكَوْنِهِ جَوَازًا بَعْدَ مَنْعٍ فَيَصْدُقُ بِالْوُجُوبِ (قَوْلُهُ: أَوْ كَانَ مِمَّا يُدْرِكُهُ الْبَرَصُ) أَيْ كَالْخَيْلِ الْبُلْقِ (قَوْلُهُ: لِمَنْعِهِمَا الْإِسْبَاغَ) أَيْ كَمَالَهُ فَإِنَّ مَا يَمْنَعُ أَصْلَ الْإِسْبَاغِ لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ لِعَدَمِ تَعْمِيمِ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ قَضِيَّةُ تَعْلِيلِهِ بِمَنْعِهِ الْإِسْبَاغَ اخْتِصَاصُ الْكَرَاهَةِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ مُطْلَقًا لِخَوْفِ الضَّرَرِ انْتَهَى.
كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ قَاسِمٍ عَلَى الْمَنْهَجِ، ثُمَّ رَأَيْت عِبَارَتَهُ نَصُّهَا قَوْلُهُ لِمَنْعِهِ الْإِسْبَاغَ قَضِيَّتُهُ اخْتِصَاصُ الْكَرَاهَةِ بِالطَّهَارَةِ، لَكِنْ عَلَّلَهَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِخَوْفِ الضَّرَرِ وَقَضِيَّتُهُ الْكَرَاهَةُ فِي الْبَدَنِ مُطْلَقًا فَلْيُنْظَرْ انْتَهَى (قَوْلُهُ وَالْأَوْجَهُ كَرَاهَةُ تُرَابِهَا) أَيْ تُرَابِ الْأَرْضِ الْمَغْضُوبِ عَلَى أَهْلِهَا، وَيَنْبَغِي أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ الثِّمَارِ وَنَحْوِهَا (قَوْلُهُ وَمَاءُ بِئْرِ بَرَهُوتَ) مُحَرَّكَةٌ وَبِالضَّمِّ: أَيْ لِلْبَاءِ انْتَهَى قَامُوسٌ. وَعِبَارَةُ مَرَاصِدِ الِاطِّلَاعِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَتَاءٍ فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ: وَادٍ بِالْيَمَنِ، قِيلَ هُوَ بِقُرْبِ
[حاشية الرشيدي]
حَرَارَتِهِ بِدَلَالَةِ مَا يَأْتِي (قَوْلُهُ: عَلَى الِابْتِدَاءِ) أَيْ أَوْ بَعْدَ التَّبْرِيدِ (قَوْلُهُ: لَا يُقَالُ إلَخْ) هَذَا سُؤَالٌ نَشَأَ مِنْ أَخْذِهِ بَقَاءَ كَرَاهَةِ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ وَإِنْ سُخِّنَ بِالنَّارِ مِنْ بَقَائِهَا فِي الْمَائِعِ الَّذِي فِيهِ مَاءٌ مُشَمَّسٌ وَإِنْ طُبِخَ بِهَا حَاصِلُهُ وُضُوحُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَاطَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ بِالطَّعَامِ تَفَرَّقَتْ بِهِ الْأَجْزَاءُ السُّمِّيَّةُ بِأَجْزَائِهِ فَلَمْ تَقْدِرْ النَّارُ عَلَى دَفْعِهَا، بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُجَرَّدِ: أَيْ فَالْأَخْذُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ شِدَّةَ غَلَيَانِ الطَّعَامِ بِالنَّارِ يُوجِبُ إخْرَاجَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ السُّمِّيَّةِ فَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ فَلَا تَقْدِرُ النَّارُ عَلَى دَفْعِهَا مَمْنُوعٌ: أَيْ وَمَعَ اقْتِضَاءِ النَّارِ إخْرَاجَ ذَلِكَ لَمْ نُرَاعِهِ وَنَنْفِي الْكَرَاهَةَ بَلْ أَثْبَتْنَاهَا، فَإِثْبَاتُهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ التَّسْخِينِ أَوْلَى لِمَا مَرَّ فَصَحَّ الْأَخْذُ الْمَذْكُورُ، وَالتَّفْرِقَةُ الَّتِي هِيَ حَاصِلُ السُّؤَالِ لِلشِّهَابِ ابْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ، فَإِنَّهُ أَثْبَتَ الْكَرَاهَةَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ تَبَعًا لِلْمَجْمُوعِ وَنَفَاهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَاءِ فَارِقًا بِمَا ذُكِرَ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِ الشَّارِحِ أَنَّ اخْتِلَاطَ ذَلِكَ لِلْمَاءِ الْمُشَمَّسِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ (قَوْلُهُ: أَوْ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ) أَيْ طِبًّا لَا تَجْرِبَةً (قَوْلُهُ: أَوْ بَرْدٍ) الْأَوْلَى بَلْ الصَّوَابُ إسْقَاطُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute