لِلنَّجَاسَةِ بَلْ يُحْتَمَلُ زَوَالُهُ وَاسْتِتَارُهُ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا، وَحَيْثُ لَمْ يُحْتَمَلْ ذَلِكَ فَهِيَ زَائِلَةٌ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، وَعُلِمَ أَنَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ لَوْ ظَهَرَتْ ثُمَّ زَالَتْ وَزَالَ التَّغَيُّرُ حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا زَالَتْ وَلَمْ يَظْهَرْ التَّغَيُّرُ عَلِمْنَا أَنَّهُ زَالَ بِنَفْسِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ وَنَحْوَهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى يُفْرَضَ سِتْرُهُ إيَّاهَا، فَإِذَا لَمْ يُصَادِفْ تَغَيُّرًا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِالزَّوَالِ.
وَالْجَصُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْجِبْسِ مِنْ لَحْنِ الْعَامَّةِ
(وَدُونَهُمَا) أَيْ وَالْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ بِأَنْ نَقَصَ عَنْهُمَا أَكْثَرُ مِنْ رَطْلَيْنِ، وَتَقْدِيرِي الْمَاءَ فِي كَلَامِهِ تَبَعًا لِلشَّارِحِ لِيُوَافِقَ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ؛ لِأَنَّ دُونَ عِنْدَهُمْ ظَرْفٌ لَا يَتَصَرَّفُ فَلَا يَصِحُّ كَوْنُهُ مُبْتَدَأً، وَجَوَّزَهُ الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا أُضِيفَ إلَى مَبْنًى كَالْوَاقِعِ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ، فَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ بِنَاءَهُ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إلَى مَبْنًى، وَأَوْجَبَ غَيْرُهُ رَفْعَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ (يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ) بِنَجَاسَةِ مُؤَثِّرَةٍ بِخِلَافِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا مِمَّا يَأْتِي وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ أَوْ كَانَ الْوَاقِعُ مُجَاوِرًا أَوْ عُفِيَ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ كَثَوْبٍ فِيهِ قَلِيلُ دَمِ أَجْنَبِيٍّ غَيْرِ مُغَلَّظٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ نَحْوِ بَرَاغِيثَ، وَمِثْلُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ كُلُّ مَائِعٍ وَإِنْ كَثُرَ وَجَامِدٍ لَاقَى رَطْبًا، أَمَّا تَنَجُّسُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمُتَغَيِّرِ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَغَيِّرِ فَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» نَهَاهُ عَنْ الْغَمْسِ خَشْيَةَ التَّنْجِيسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إذَا خَفِيَتْ لَا تُغَيِّرُ الْمَاءَ، فَلَوْلَا أَنَّهَا تُنَجِّسُهُ بِوُصُولِهَا لَمْ يَنْهَهُ وَلِمَفْهُومِ خَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ.
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَيَلْتَحِقُ بِالْمَائِعَاتِ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِطَاهِرٍ، وَفَارَقَ كَثِيرُ الْمَاءِ كَثِيرَ غَيْرِهِ بِأَنَّ كَثِيرَهُ قَوِيٌّ، وَيَشُقُّ حِفْظُهُ مِنْ النَّجَسِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَثُرَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ
ــ
[حاشية الشبراملسي]
بِمُجَاوِرٍ عَادَ طَهُورًا كَمَا فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ، وَيَدُلُّ لَهُ التَّمْثِيلُ بِالْمُخَالِطِ انْتَهَى بِحُرُوفِهِ. لَا يُقَالُ يُمْكِنُ حَمْلُ مَا فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لِلْمُجَاوِرِ رِيحٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُخَالِطُ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ فِيهِ مِسْكٌ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ رَائِحَةٌ قُلْنَا بِعُودِ الطَّهَارَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
وَقَضِيَّةُ قَوْلِهِ عَلَى الْوَاقِعِ فِي الْمَاءِ إلَخْ أَنَّهُ لَوْ تَرَوَّحَ الْمَاءُ بِنَحْوِ مِسْكٍ عَلَى الشَّطِّ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ زَوَالِ النَّجَاسَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادًا؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الرَّائِحَةِ فِي الْمَاءِ يَسْتُرُ رَائِحَةَ النَّجَاسَةِ، وَلَا فَرْقَ مَعَ وُجُودِ السَّاتِرِ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْمَاءِ وَكَوْنِهِ خَارِجًا عَنْهُ هَذَا. وَفِي ابْنِ عَبْدِ الْحَقِّ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ بِرَائِحَةِ مَا عَلَى الشَّطِّ لَمْ يُحْكَمْ بِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُعْتَمَدَ خِلَافًا فِي الْمُجَاوِرِ، فَيَلْحَقُ بِهِ عِنْدَ الشَّارِحِ الزَّوَالُ بِرَائِحَةِ مَا عَلَى الشَّطِّ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا (قَوْلُهُ: وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْجِبْسِ) وَفَسَّرَهُ الْمَحَلِّيُّ هُنَا بِمَا ذُكِرَ، وَفِي الْجَنَائِزِ بِالْجِيرِ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ إطْلَاقُهُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا
(قَوْلُهُ: وَجَوَّزَهُ الْأَخْفَشُ) أَيْ تَصَرُّفَهُ وَقَوْلُهُ وَالْكُوفِيُّونَ وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ بِلَا تَقْدِيرٍ (قَوْلُهُ: يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ) اخْتَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ مُطْلَقًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا لِلتَّسْهِيلِ عَلَى النَّاسِ، وَإِلَّا فَالدَّلِيلُ صَرِيحٌ فِي التَّفْصِيلِ كَمَا تَرَى انْتَهَى ابْنُ حَجَرٍ (قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ) رَاجِعٌ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِالْمُلَاقَاةِ (قَوْلُهُ: أَوْ كَانَ الْوَاقِعُ مُجَاوِرًا إلَخْ) عَطْفٌ عَلَى مُؤَثِّرَةٍ، وَكَانَ التَّقْدِيرُ لِنَجَاسَةٍ مُخَالَطَةٍ مُؤَثِّرَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا، أَوْ كَانَ الْوَاقِعُ مُجَاوِرًا، أَوْ عُفِيَ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ إلَخْ، وَالْأَقْرَبُ عَطْفُهُ عَلَى يَتَغَيَّرُ (قَوْلُهُ: أَوْ عُفِيَ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ) قُيِّدَ بِهِ لِئَلَّا يُنَافِيَ مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ الْمَعْفُوَّ عَنْهَا لَا تَنْجُسُ بِمُلَاقَاتِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا عُفِيَ عَنْهُ هُنَا كَاَلَّذِي لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ غَيْرَ مَا عُفِيَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ (قَوْلُهُ: كُلُّ مَائِعٍ وَإِنْ كَثُرَ) أَيْ لَوْ جَارِيًا (قَوْلُهُ: وَيَلْتَحِقُ بِالْمَائِعَاتِ) قَالَ عَمِيرَةُ: فَلَوْ زَالَ التَّغَيُّرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ عَدَمُ الطَّهُورِيَّةِ انْتَهَى.
وَعَلَيْهِ فَلْيُنْظَرْ بِمَ تَحْصُلُ طَهَارَتُهُ، ثُمَّ رَأَيْت فِي نُسْخَةٍ مِنْ عَمِيرَةٍ بَدَلَ لَفْظِ عَدَمِ عَوْدِ الطَّهُورِيَّةِ وَهِيَ وَاضِحَةٌ انْتَهَى (قَوْلُهُ: الْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِطَاهِرٍ) أَيْ لِلْمَاءِ عَنْهُ غِنًى، بِخِلَافِ الْمُتَغَيِّرِ بِمَا فِي مَقَرِّهِ وَمَمَرِّهِ فَلَا يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلْ يُقَدَّرُ زَوَالُهُ، فَإِنْ غَيَّرَ
ــ
[حاشية الرشيدي]
كَالزَّعْفَرَانِ الَّذِي فُقِدَ طَعْمُهُ وَرِيحُهُ لِعَارِضٍ مَعَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمَا الْوُجُودَ، وَمَا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَهُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ