أرجلهما في ماء البدندون، فقال: يا سعيد، دل رجليك في هذا الماء وذقه، فهل رأيت ماء قط أشد بردا، ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه! ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثل هذا قط، قَالَ: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: رطب الآزاذ، فبينا هو يقول هذا إذا سمع وقع لجم البريد فالتفت، فنظر فإذا بغال من بغال البريد، على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: اذهب فانظر: هل في هذه الالطاف رطب؟ فانظره، فان كان آزاذ فأت به، فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ، كأنما جني من النخل تلك الساعة، فأظهر شكرا لله تعالى، وكثر تعجبنا منه، فقال: ادن فكل، فأكل هو وأبو إسحاق، وأكلت معهما، وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منا أحد إلا وهو محموم، فكانت منية المأمون من تلك العلة، ولم يزل المعتصم عليلا حتى دخل العراق، ولم أزل عليلا حتى كان قريبا.
ولما اشتدت بالمأمون علته بعث إلى ابنه العباس، وهو يظن أن لن يأتيه، فأتاه وهو شديد المرض متغير العقل، قد نفذت الكتب بما نفذت له في أمر ابى إسحاق بن الرشيد، فأقام العباس عند أبيه أياما، وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق.
وقيل: لم يوص إلا والعباس حاضر، والقضاة والفقهاء والقواد والكتاب، وكانت وصيته: هذا ما أشهد عليه عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره، أشهدهم جميعا على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في ملكه، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئا له مثل، ولا شيء مثله تبارك وتعالى، وإن الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، وثواب المحسن الجنة وعقاب المسيء، النار، وان محمدا ص قد بلغ عن ربه شرائع دينه، وأدى نصيحته إلى أمته، حَتَّى قبضه اللَّه إِلَيْهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ افضل صلاه