وهذا الحجر أخذته من السور! فقال له: الساعة، إذا انصرفت تدري من على طريقك جالس- يعني العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من وراء الناس.
ثم قال الأفشين لأبي سعيد في وجه جعفر: أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين، فإني ما علمتك عالما بأمر هذه العساكر وسياستها، ليس كل من حف رأسه يقول: إن الوقوف في الموضع الذي يحتاج إليه خير.
من المحاربة في الموضع الذي لا يحتاج إليه، لو وثب هؤلاء الذين تحتك- وأشار إلى الكمين الذي تحت الجبل- كيف كنت ترى هؤلاء المطوعة الذين هم في القمص؟ أي شيء كان يكون حالهم، ومن كان يجمعهم؟ الحمد لله الذي سلمهم، فقف هاهنا فلا تبرح حتى لا يبقى هاهنا أحد وانصرف الأفشين، وكان من سنته إذا بدا بالانصراف ينحدر علم الكراديس وفرسانه ورجالته، والكردوس الآخر واقف بينه وبينه قدر رمية سهم، لا يدنو من العقبة، ولا من المضيق، حتى يرى أنه قد عبر كل من في الكردوس الذي بين يديه وخلا به الطريق، ثم يدنو بعد ذلك فينحدر في الكردوس الآخر بفرسانه ورجالته، ولا يزال كذلك، وقد عرف كل كردوس من خلف من ينصرف، فلم يكن يتقدم أحد منهم بين يدي صاحبه، ولا يتأخر هكذا، حتى إذا نفذت الكراديس كلها ولم يبق أحد غير بخاراخذاه، انحدر بخاراخذاه وخلى العقبة.
فانصرف ذلك اليوم على هذه الهيئة، وكان أبو سعيد آخر من انصرف، وكلما مر العسكر بموضع بخاراخذاه، ونظروا إلى الموضع الذي كان فيه الكمين، علموا ما كان وطيء لهم، وتفرق أولئك الأعلاج الذين أرادوا أخذ الموضع الذي كان بخاراخذاه يحفظه، ورجعوا إلى مواضعهم، فأقام الأفشين في خندقه بروذ الروذ أياما، فشكا إليه المطوعة الضيق في العلوفة والأزواد والنفقات، فقال لهم: من صبر منكم فليصبر، ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام، معي جند أمير المؤمنين، ومن هو في أرزاقه يقيمون معي في الحر والبرد، ولست ابرح من هاهنا حتى يسقط الثلج فانصرف المطوعة وهم يقولون: لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذ، هذا لا يشتهي