فَإِنَّ الْمَلِكَ قَدْ أَمَرَ لَهُمْ بِمِيرَةٍ وَطَعَامٍ يُقَسِّمُ فِيهِمْ، فَحَضَرُوَا، فَأَدْخَلَهُمِ الْمُشَقَّرَ- وَهُوَ حِصْنٌ حِيَالَهُ حِصْنٌ يُقَالُ لَهُ الصَّفَا، وَبَيْنَهُمَا نَهْرٌ يُقَالُ لَهُ مُحَلِّمٌ- وَكَانَ الَّذِي بَنَى الْمُشَقَّرَ رَجُلًا مِنْ أَسَاوِرَةِ كِسْرَى يُقَالُ لَهُ: بسكُ بْنُ مَاهبُوذَ، كَانَ كِسْرَى وَجَّهَهُ لِبِنَائِهِ، فَلَمَّا ابْتَدَأَهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْفَعَلَةَ لا يُقِيمُونَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ، فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِهِمْ تَمَّ بِنَاؤُكَ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْهُ، فَنَقَلَ إِلَيْهِمُ الْفَوَاجِرَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّوَادِ وَالأَهْوَازِ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِمْ رَوَايَا الْخَمْرِ مِنْ أَرْضِ فَارِسَ فِي الْبَحْرِ، فَتَنَاكَحُوا وَتَوَالَدُوا، فَكَانُوا جل أَهْل مَدِينَةِ هَجَرٍ، وَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَتْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ قَالُوا لِعَبْدِ الْقَيْسِ:
قَدْ عَلِمْتُمْ عَدَدَنَا وَعُدَّتَنَا وَعَظِيمَ غِنَائِنَا، فَأَدْخِلُونَا فِيكُمْ وَزَوِّجُونَا، قَالُوا: لا، وَلَكِنْ أَقِيمُوا عَلَى حَالِكُمْ، فَأَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَمَوَالِينَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عبد القيس: يا معاشر عَبْدِ الْقَيْسِ، أَطِيعُونِي وَأَلْحِقُوهُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ مَرْغَبٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اما تستحي! أَتَأْمُرُنَا أَنْ نَدْخُلَ فِينَا مَنْ قَدْ عَرَفْتَ أَوَّلَهُ وَأَصْلَهُ! قَالَ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أَلْحَقَهُمْ غَيْرُكُمْ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ: إِذًا لا نَسْتَوْحِشُ لَهُمْ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ فِي الْعَرَبِ، وَبَقِيَتْ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ فَانْتَمَوْا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرُدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَمَّا أَدْخَلَ الْمُكَعْبَرُ بَنِي تَمِيمٍ الْمُشَقَّرَ قَتَلَ رِجَالَهُمْ وَاسْتَبْقَى الْغِلْمَانَ، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ قَعْنَبَ الرِّيَاحِيَّ- وَكَانَ فَارِسَ بَنِي يَرْبُوعٍ- قَتَلَهُ رَجُلانِ مِنْ شَنٍّ كَانَا يَنُوبَانِ الْمُلُوكَ، وَجَعَلَ الْغِلْمَانَ فِي السُّفُنِ، فَعَبَرَ بِهِمْ إِلَى فَارِسَ، فَخَصُّوا مِنْهُمْ بَشَرًا قَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ حُدَيْرٍ الْعَدَوِيُّ: رَجَعَ إِلَيْنَا بَعْد مَا فُتِحَتْ إصْطَخَرُ عِدَّةٌ مِنْهُمْ، أَحَدُهُمْ خِصْيٌ وَالآخَرُ خِيَاطٌ وَشَدَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ وَهْبٍ عَلَى سِلْسِلَةِ الْبَابِ فَقَطَعَهَا وَخَرَجَ، فَقَالَ:
تَذَكَّرْتُ هِنْدًا لاتَ حِينَ تَذَكُّرُ ... تَذَكَّرْتُهَا وَدُونَهَا سَيْرُ أَشْهُرِ
حِجَازِيَّةً عَلَوِيَّةً حَلَّ أَهْلُهَا ... مُصَابَ الْخَرِيف بَيْنَ زَوْرٍ وَمَنْوَرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute