للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا شَرِبَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، فَقَدْ شَرِبَهُ جَمَاعَةٌ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ فَنَالُوا مَطْلُوبَهُمْ وَيُسَنُّ الدُّخُولُ إلَى الْبِئْرِ وَالنَّظَرِ فِيهَا، وَأَنْ يَنْزِعَ مِنْهَا بِالدَّلْوِ الَّذِي عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ، وَأَنْ يَنْضَحَ مِنْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَصَدْرِهِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَنْ يَتَزَوَّدَ مِنْ مَائِهَا وَيَسْتَصْحِبَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ لِلِاتِّبَاعِ، وَأَنْ يَشْرَبَ مِنْ نَبِيذِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ مَا لَمْ يُسْكِرْ، وَأَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ بِمَكَّةَ، وَأَنْ يَنْصَرِفَ تِلْقَاء وَجْهِهِ مُسْتَدْبِرَ الْبَيْتِ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ وَصَوَّبَهُ فِي مَجْمُوعِهِ، وَيُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ إلَى أَنْ يَغِيبَ عَنْهُ كَالْمُتَحَزِّنِ الْمُتَأَسِّفِ عَلَى فِرَاقِهِ وَيَقُولُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ

(وَ) يُسَنُّ (زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» وَمَفْهُومُهُ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِغَيْرِ زَائِرِهِ وَخَبَرُ «مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَمْ تَنْزِعْهُ حَاجَةٌ إلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَخَبَرُ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا يُبَلِّغُنِي وَكُفِيَ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ وَكُنْت لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَزِيَارَةُ قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهَمِّ الْقُرُبَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَ نُسُكًا لَكِنَّهَا مُتَأَكِّدَةٌ فِيمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ (بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ) إذْ الْغَالِبُ عَلَى الْحَجِيجِ وُرُودُهُمْ مِنْ آفَاقٍ بَعِيدَةٍ، فَإِذَا قَرُبُوا مِنْ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ يَقْبُحُ تَرْكُهُمْ الزِّيَارَةَ، وَلِخَبَرِ «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِهَا لِلْحَاجِّ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَحُكْمُ الْمُعْتَمِرِ كَالْحَاجِّ فِي تَأَكُّدِهَا لَهُ وَتُسَنُّ زِيَارَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَزِيَارَةُ الْخَلِيلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالْحَجِّ. وَيُسَنُّ لِمَنْ قَصَدَ الْمَدِينَةَ الشَّرِيفَةَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُكْثِرَ فِي طَرِيقِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَزِيدُ فِيهَا إذَا أَبْصَرَ أَشْجَارَهَا مَثَلًا وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَهُ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ وَيَتَقَبَّلَهَا مِنْهُ، وَأَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ دُخُولِهِ كَمَا مَرَّ وَيَلْبَسَ أَنْظَفَ ثِيَابِهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَصَدَ الرَّوْضَةَ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَصَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ

ــ

[حاشية الشبراملسي]

مَحِلِّهِ (قَوْلُهُ: إذَا شَرِبَهُ يَقُولُ إلَخْ) ظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالشَّارِبِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ تَعَدِّي ذَلِكَ إلَى الْغَيْرِ، فَإِذَا شَرِبَهُ إنْسَانٌ بِقَصْدِ وَلَدِهِ وَأَخِيهِ مَثَلًا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ إذَا شَرِبَهُ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ.

وَنُقِلَ عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الشَّوْبَرِيِّ مَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلْيُرَاجَعْ، وَعِبَارَتُهُ فِي هَوَامِشِ فَتْوَى حَجّ الْفِقْهِيَّةِ الْكُبْرَى نَصَّهَا عِنْدَ قَوْلِهِ «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» إلَخْ: هَلْ وَلَوْ كَانَ طَلَبُ التَّحْصِيلِ بِهِ لِغَيْرِ شَارِبِهِ بِأَنْ شَرِبَهُ لِيَحْصُلَ لِوَلَدِهِ الْعِلْمُ أَوْ الشِّفَاءُ أَوْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ أَوْ وَكَالَةٌ بِأَنْ وَكَّلَ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ غَيْرِ مَنْ ذَكَرَ وَلَيْسَ مُوَافِقًا لِمَا نُقِلَ عَنْهُ (قَوْلُهُ: فَقَدْ شَرِبَهُ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَيُسَنُّ أَنْ يَشْرَبَهُ لِمَطْلُوبِهِ إلَخْ

(قَوْلُهُ: لَمْ تَنْزِعْهُ حَاجَةٌ) أَيْ تُهْمَةٌ (قَوْلُهُ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا يُبَلِّغُنِي إلَخْ) قَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ بِلَا وَاسِطَةِ الْمَلِكِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يَسْمَعُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ بِلَا وَاسِطَةٍ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَيُمْكِنُ حَمْلُ مَا هُنَا عَلَى أَنَّهُ يُبَلِّغُ مَعَ السَّمَاعِ.

ثُمَّ رَأَيْت فِي حَجّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْجَوْهَرِ الْمُنَظَّمِ فِي زِيَارَةِ الْقَبْرِ الْمُعَظَّمِ مَا نَصُّهُ: تَنْبِيهٌ: يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الظَّاهِرَةِ التَّعَارُضِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَأَحَادِيثَ أُخَرَ وَرَدَتْ بِمَعْنَاهَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَلَّغُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ إذَا صَدَرَا مِنْ بُعْدٍ وَيَسْمَعُهُمَا إذَا كَانَ عِنْدَ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَإِنْ وَرَدَ أَنَّهُ يُبَلَّغُهُمَا هُنَا أَيْضًا كَمَا مَرَّ، إذْ لَا مَانِعَ أَنَّ مَنْ عِنْدَ قَبْرِهِ يُخَصُّ بِأَنَّ الْمَلِكَ يُبَلِّغُ صَلَاتَهُ وَسَلَامَهُ مَعَ سَمَاعِهِ لَهُمَا إشْعَارًا بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ وَالِاسْتِمْدَادِ لَهُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، إذْ الْمُقَيَّدُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ وَاجِبٌ حَيْثُ أَمْكَنَ، وَأَفْتَى النَّوَوِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ هَلْ يَحْنَثُ؟ بِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ لِلشَّكِّ فِي ذَلِكَ وَالْوَرَعُ أَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْحِنْثَ اهـ

ــ

[حاشية الرشيدي]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

<<  <  ج: ص:  >  >>