أَيِّ حَالَةٍ كَانَتْ فَهِيَ قَوْلِيَّةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. نَعَمْ يُكْرَهُ الْكَلَامُ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «إذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْت» وَمَعْنَاهُ: تَرَكْت الْأَدَبَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْأَرْبَعِينَ بَلْ سَائِرُ الْحَاضِرِينَ فِيهِ سَوَاءٌ.
نَعَمْ الْأَوْلَى لِغَيْرِ السَّامِعِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، وَلَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَلَوْ بَعْدَ الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَا بَعْدَهَا وَلَا بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَلَا كَلَامُ الدَّاخِلِ إلَّا إذَا اتَّخَذَ لَهُ مَكَانًا وَاسْتَقَرَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ غَالِبًا، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِمُسْتَمِعِ الْخَطِيبِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْفَعَ بِهَا صَوْتَهُ إذَا سَمِعَ ذِكْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنْ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ بِكَرَاهَتِهِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الِاسْتِمَاعَ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِهَا خِلَافُ الْأَوْلَى. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالرَّفْعُ الْبَلِيغُ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامّ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَالْقَدِيمُ يَحْرُمُ الْكَلَامَ، وَيَجِبُ الْإِنْصَاتُ، وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامَ عَلَى الْخَطِيبِ قَطْعًا. وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي كَلَامٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُهِمٌّ نَاجِزٌ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ ذَلِكَ كَمَا لَوْ رَأَى أَعْمَى يَقَعُ فِي بِئْرٍ أَوْ عَقْرَبًا تَدِبُّ عَلَى إنْسَانٍ فَأَنْذَرَهُ، أَوْ عَلَّمَ إنْسَانًا شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ، أَوْ نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا قَطْعًا بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِشَارَةِ إنْ أَغْنَتْ (وَيُسَنُّ) إقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ بِوُجُوهِهِمْ عَمَلًا بِالْأَدَبِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَوْجِيهِهِمْ الْقِبْلَةَ وَ (الْإِنْصَاتُ) لَهُ لِمَا مَرَّ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: ٢٠٤] وَرَدَ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ أَكْثَرُهُمْ وَسُمِّيَتْ قُرْآنًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُذْكَر الِاسْتِمَاعُ مَعَ الْإِنْصَاتِ كَغَيْرِهِ عَلَى وِزَانِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَلْزَمْ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا
ــ
[حاشية الشبراملسي]
يُصَيِّرهَا عَامَّةً (قَوْلُهُ: لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: إذَا قُلْت لِصَاحِبِك إلَخْ) رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ «إذَا قُلْت لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْت» وَلَفْظُ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ «مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا» (قَوْلُهُ: أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ) أَيْ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ اشْتِغَالُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمًا عَلَى التِّلَاوَةِ لِغَيْرِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَالذِّكْرِ، لِأَنَّهَا شِعَارُ الْيَوْمِ (قَوْلُهُ إذَا سَمِعَ ذِكْرَهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْخَطِيبِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَعِبَارَةُ عَمِيرَةَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْآتِي: وَلِمُسْتَمِعِ الْخَطِيبِ إذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ: وَقَضِيَّةُ تَعْبِيرِهِمْ هَذَا أَنَّهُ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ ثُمَّ قَالَ إنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى مُحَافَظَةً عَلَى الِاسْتِمَاعِ (قَوْلُهُ: خِلَافُ الْأَوْلَى) قَالَ حَجّ: الرَّفْعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ سُنَّةٌ (قَوْلُهُ: وَيُسَنُّ إقْبَالُهُمْ) [فَائِدَةٌ] لَوْ كَلَّمَ شَافِعِيٌّ مَالِكِيًّا وَقْتَ الْخُطْبَةِ فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَعِبَ الشَّافِعِيُّ مَعَ الْحَنَفِيِّ الشِّطْرَنْجَ لِإِعَانَتِهِ لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَوْ لَا الْأَقْرَبُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ لَعِبَ الشِّطْرَنْجِ لَمَّا لَمْ يَتَأَتَّ إلَّا مِنْهُمَا كَانَ الشَّافِعِيُّ كَالْمُلْجِئِ لَهُ، بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ حَيْثُ أَجَابَهُ الْمَالِكِيُّ وَتَكَلَّمَ مَعَهُ كَانَ اخْتِيَارَهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ لَا يُجِيبَهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إذَا لَمْ يُجِبْهُ لَحَصَلَ لَهُ مِنْهُ ضَرَرٌ لِكَوْنِ الشَّافِعِيِّ الْمُكَلِّمِ أَمِيرًا أَوْ ذَا سَطْوَةٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا مِنْ جِهَةِ الْكَلَامِ بَلْ مِنْ جِهَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: بِوُجُوهِهِمْ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَنْظُرُوا لَهُ، وَهَلْ يُسَنُّ النَّظَرُ إلَيْهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي أَخْذًا مِمَّا وَجَّهُوا بِهِ حُرْمَةَ أَذَانِ الْمَرْأَةِ يُسَنُّ النَّظَرُ لِلْمُؤَذِّنِ دُونَ غَيْرِهِ وَبَقِيَ الْخَطِيبُ هَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ النَّظَرُ إلَيْهِمْ فَيُكْرَهُ لَهُ تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ أَمْ لَا؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْآتِي: وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ (قَوْلُهُ: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: ٢٠٤] [تَنْبِيهٌ] قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّمْتِ وَالسُّكُوتِ وَالْإِنْصَاتِ وَالْإِصَاخَةِ أَنَّ الصَّمْتَ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا قُوَّةَ فِيهِ لِلنُّطْقِ وَفِيمَا لَهُ قُوَّةُ النُّطْقِ، وَلِهَذَا قِيلَ لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُطْقٌ الصَّامِتُ وَالسُّكُوتُ لِمَا لَهُ نُطْقٌ فَتَرَكَ اسْتِعْمَالَهُ وَالْإِنْصَاتُ سُكُوتٌ مَعَ اسْتِمَاعٍ، وَمَتَى انْفَكَّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَر لَمْ يَكُنْ لَهُ إنْصَاتٌ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: ٢٠٤] فَقَوْلُهُ وَأَنْصِتُوا بَعْدَ الِاسْتِمَاعِ ذِكْرُ خَاصٍّ بَعْدَ عَامٍّ، وَالْإِصَاخَةُ: الِاسْتِمَاعُ
[حاشية الرشيدي]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute