فِي الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ الْمَطْلُوبِ فِيهِ إكْثَارُهَا، وَفِي قِرَاءَةِ الْخَبَرِ بَعْدَ الْأَذَانِ وَقَبْلَ الْخُطْبَةِ تَيَقُّظٌ لِلْمُكَلَّفِ لِاجْتِنَابِ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ أَوْ الْمَكْرُوهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ، وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ.
(وَ) يُسَنُّ (أَنْ تَكُونَ) الْخُطْبَةُ (بَلِيغَةً) أَيْ فَصَيْحَةً جَزْلَةً لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْمُبْتَذَلِ الرَّكِيكِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ (مَفْهُومَةً) لَا غَرِيبَةً وَحْشِيَّةً إذْ لَا يَنْتَفِعُ أَكْثَرُ النَّاسِ بِهَا، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَكُونُ كَلَامُهُ مُسْتَرْسِلًا مُبَيِّنًا مُعْرِبًا مِنْ غَيْرِ تَغَنٍّ وَلَا تَمْطِيطٍ، وَكَرِهَ الْمُتَوَلِّي الْكَلِمَاتِ الْمُشْتَرَكَةَ وَالْبَعِيدَةَ عَنْ الْأَفْهَامِ وَمَا يُنْكِرُهُ عُقُولُ الْحَاضِرِينَ، وَقَدْ يَحْرُمُ الْأَخِيرُ إنْ أَوْقَعَ فِي مَحْظُورٍ (قَصِيرَةً) أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «أَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ» فَتَكُونُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ، وَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ صَلَاتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا وَمِنْ أَنَّ قِصَرَهَا عَلَامَةٌ عَلَى الْفِقْهِ لِأَنَّ الْقِصَرَ وَالطُّولَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، فَالْمُرَادُ بِاقْتِصَارِهَا إقْصَارُهَا عَنْ الصَّلَاةِ وَبِإِطَالَةِ الصَّلَاةِ إطَالَتُهَا عَلَى الْخُطْبَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ سَنَّ قِرَاءَةِ " ق " فِي الْأُولَى لَا يُنَافِي كَوْنَ الْخُطْبَةِ قَصِيرَةً أَوْ مُتَوَسِّطَةً. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَحَسُنَ أَنْ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالٍ وَأَزْمَانٍ وَأَسْبَابٍ، وَقَدْ يَقْتَضِي الْحَالُ الْإِسْهَابَ كَالْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ إذَا طَرَقَ الْعَدُوُّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الْبِلَادَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشِ وَالزِّنَا وَالظُّلْمِ إذَا تَتَابَعَ النَّاسُ فِيهَا وَحَسَنٌ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ: وَيَقْصِدُ إيرَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحَ وَاخْتِيَارَ اللَّفْظِ الْفَصِيحِ وَلَا يُطَوِّلُ إطَالَةً تُمِلُّ وَلَا يُقَصِّرُ قَصْرًا يُخِلُّ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ غَيْرُ مُنَافٍ لِمَا مَرَّ، إذْ الْإِطَالَةُ عِنْدَ دُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لِعَارِضٍ لَا يُعَكِّرُ عَلَى مَا أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا.
(وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَ) لَا (شِمَالًا) وَلَا خَلْفًا (فِي شَيْءٍ مِنْهَا) لِأَنَّهَا بِدْعَةٌ بَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ إلَى فَرَاغِهَا، وَلَا يَعْبَثُ بَلْ يَخْشَعُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَوْ اسْتَدْبَرَهَا الْحَاضِرُونَ أَجْزَأَ مَعَ الْكَرَاهَةِ (وَأَنْ يَعْتَمِدَ) فِي حَالِ خُطْبَتِهِ اسْتِحْبَابًا (عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا) وَنَحْوِهِ مِنْ قَوْسٍ أَوْ رُمْحٍ لِمَا صَحَّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَكَّأَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا» وَحِكْمَتُهُ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ قَامَ بِالسِّلَاحِ، وَلِهَذَا قَبَضَهُ بِالْيُسْرَى عَلَى عَادَةِ مَنْ يُرِيدُ الْجِهَادَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا تَنَاوُلًا حَتَّى يَكُونَ بِالْيَمِينِ بَلْ هُوَ اسْتِعْمَالٌ وَامْتِهَانٌ بِالِاتِّكَاءِ، فَكَانَتْ الْيَسَارُ بِهِ أَلْيَقُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَمَامِ الْإِشَارَةِ إلَى الْحِكْمَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَشْغَلُ يَمِينَهُ بِالْمِنْبَرِ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ نَجَاسَةٌ كَذَرْقٍ طَيْرٍ لَا يُعْفِي عَنْهُ وَهِيَ مُلَاقِيَةٌ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ جَعَلَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى تَحْتَ صَدْرِهِ أَوْ أَرْسَلَهُمَا، وَالْغَرَضُ أَنْ يَخْشَعَ وَلَا يَعْبَثَ بِهِمَا كَمَا مَرَّ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ شُغْلُ الْيُمْنَى بِحَرْفِ الْمِنْبَرِ وَإِرْسَالِ
ــ
[حاشية الشبراملسي]
يُؤَخِّرُ الْخُرُوجَ (قَوْلُهُ يَقُولُ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ) لَمْ يَقُلْ فِي افْتِتَاحِ خُطْبَتِهِ فَأَشْعَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ كَيْفَ اتَّفَقَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِهِ بِمَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهُ فِي ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ.
(قَوْلُهُ: يَكُونُ كَلَامُهُ) أَيْ يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ إلَخْ، وَقَوْلُهُ مُعْرِبًا: أَيْ وَاضِحًا (قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ تَغَنٍّ وَلَا تَمْطِيطٍ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ (قَوْلُهُ: وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ) بِضَمِّ الصَّادِ مَحَلِّيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَقَضِيَّةُ تَعْبِيرِ الشَّارِحِ الْآتِي بِالْإِقْصَارِ كَسْرُ الصَّادِ وَفَتْحُ الْهَمْزَةِ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ أَقَصَرَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ ضَمَّ الصَّادِ هِيَ الرِّوَايَةُ مِنْ قَصَرَ وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّ أَقْصَرَ لُغَةٌ، ثُمَّ رَأَيْت فِي الْمِصْبَاحِ أَنَّ قَصُرَ هُوَ الْكَثِيرُ، وَأَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِالْهَمْزِ أَوْ التَّضْعِيفِ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ ضَمُّ الصَّادِ مُخَفَّفَةً مِنْ قَصُرَ وَكَسْرُهَا مَعَ فَتْحِ الْهَمْزِ مَعَ أَقْصَرَ وَكَسْرُهَا مُشَدَّدَةً مِنْ قَصَّرَ (قَوْلُهُ: الْإِسْهَابَ) أَيْ التَّطْوِيلَ.
(قَوْلُهُ: أَوْ عَصَا) أَيْ تَارَةً عَلَى هَذَا وَتَارَةً عَلَى هَذَا (قَوْلُهُ: أَوْ أَرْسَلَهُمَا)
[حاشية الرشيدي]
(قَوْلُهُ: وَالْغَرَضُ أَنْ يَخْشَعَ إلَخْ) أَيْ عِنْدَ عَدَمِ وِجْدَانِهِ لِمَا مَرَّ فَلَا يُنَافِي الْحِكْمَةَ الْمَارَّةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute