{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: ٥٢] وَقَالَ {إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: ٩٨] الْآيَةُ (وَالْخُرُوجُ مِنْ الْمَظَالِمِ) نَصَّ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ إتْمَامًا بِذِكْرِهَا لِعِظَمِ أَمْرِهَا فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَسَوَاءٌ فِي الْمَظَالِمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِبَادِ كَانَتْ دَمًا أَمْ عِرْضًا أَمْ لَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِلْإِجَابَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْجَدْبُ بِتَرْكِ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ «وَلَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إلَّا حُبِسَ عَنْهُمْ الْمَطَرُ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إذَا بَخَسَ النَّاسُ الْمِكْيَالَ مُنِعُوا قَطْرَ السَّمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: ١٥٩] تَلْعَنُهُمْ دَوَابُّ الْأَرْضِ تَقُولُ: نُمْنَعُ الْمَطَرَ بِخَطَايَاهُمْ وَالتَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ وَاجِبَةٌ فَوْرًا أَمَرَ بِهَذَا الْإِمَامُ، أَوْ لَا (وَيَخْرُجُونَ) أَيْ النَّاسُ مَعَ الْإِمَامِ (إلَى الصَّحْرَاءِ) بِلَا عُذْرٍ تَأَسِّيًا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ فَلَا يَسَعُهُمْ الْمَسْجِدُ غَالِبًا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَإِنْ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مَكَّةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ لِفَضْلِ الْبُقْعَةِ وَسَعَتِهَا؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِإِحْضَارِ الصِّبْيَانِ وَمَأْمُورُونَ بِأَنَّا نُجَنِّبُهُمْ الْمَسَاجِدَ (فِي الرَّابِعِ) مِنْ ابْتِدَاءِ صَوْمِهِمْ (صِيَامًا) لِخَبَرِ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ وَعَدَّ مِنْهُمْ الصَّائِمَ» ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ مَعِينٌ عَلَى الرِّيَاضَةِ وَالْخُشُوعِ، وَيَنْبَغِي لَهُ تَخْفِيفُ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَا أَمْكَنَ، وَفَارَقَ مَا هُنَا صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ حَيْثُ لَا يُسَنُّ لِلْحَاجِّ بِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ مَشَقَّةُ الصَّوْمِ وَالسَّفَرِ، وَبِأَنَّ مَحَلَّ الدُّعَاءِ ثَمَّ آخِرُ النَّهَارِ، وَالْمَشَقَّةُ الْمَذْكُورَةُ مُضَعَّفَةٌ حِينَئِذٍ بِخِلَافِهِ هُنَا، وَقَضِيَّةُ الْفَرْقَيْنِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا هُنَا مُسَافِرِينَ وَصَلَّوْا آخِرَ النَّهَارِ لَا صَوْمَ عَلَيْهِمْ، بَلْ قَضِيَّةُ الْأَوَّلِ ذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ صَلَّوْا أَوَّلَ النَّهَارِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا أَمَرَ هُنَا صَارَ وَاجِبًا، قَالَ الشَّيْخُ: وَقَدْ يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ وُجُوبُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْمُسَافِرُ، فَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ فَلَا وُجُوبَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ حِينَئِذٍ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِكَوْنِ الْفِطْرِ أَفْضَلَ، وَرَدَّهُ الْوَالِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: إنَّ الْمُعْتَمَدَ طَلَبُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْأَصْحَابِ لِمَا مَرَّ «إنَّ دَعْوَةَ الصَّائِمِ لَا تُرَدُّ» وَيَخْرُجُونَ غَيْرَ مُتَطَيِّبِينَ وَلَا مُتَزَيِّنِينَ بَلْ (فِي ثِيَابِ بِذْلَةٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ مِهْنَةٍ مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ: أَيْ مَا يُلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ فِي وَقْتِ الشُّغْلِ وَمُبَاشَرَةِ الْخِدْمَةِ وَتَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِحَالِهِمْ وَهُوَ يَوْمُ مَسْأَلَةٍ وَاسْتِكَانَةٍ وَبِهِ فَارَقَ الْعِيدُ.
قَالَ الْقَمُولِيُّ: وَلَا يُلْبَسُ الْجَدِيدُ مِنْ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ أَيْضًا وَيَتَنَظَّفُونَ بِالْمَاءِ وَالسِّوَاكِ وَقَطْعِ
ــ
[حاشية الشبراملسي]
قَوْلُهُ: تَقُولُ نَمْنَعُ إلَخْ) لَعَلَّهَا تَذْكُرُ هَذَا لِسَبَبِ اللَّعْنِ وَإِلَّا فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ لَيْسَ لَعْنًا (قَوْلُهُ وَإِنْ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ) مُرَادُهُ حَجّ (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ وَلِأَنَّا إلَخْ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِفَضْلِ الْبُقْعَةِ (قَوْلُهُ وَعَدَّ مِنْهُمْ الصَّائِمَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ (قَوْلُهُ: عَلَى الرِّيَاضَةِ) هِيَ طَهَارَةُ الْبَاطِنِ (قَوْلُهُ: بَلْ قَضِيَّةُ الْأَوَّلِ) هُوَ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ إلَخْ (قَوْلُهُ: طَلَبُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا) أَيْ وَلَوْ مَعَ ضَرَرٍ يُحْتَمَلُ عَادَةً (قَوْلُهُ وَيَخْرُجُونَ غَيْرَ مُتَطَيِّبِينَ) شَمِلَ قَوْلَهُ مَا لَوْ كَانَ بِبَدَنِهِ رَائِحَةٌ لَا يُزِيلُهَا إلَّا الطِّيبُ الَّذِي تَظْهَرُ رَائِحَتُهُ فِي الْبَدَنِ، وَقَدْ يُلْتَزَمُ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي نَفْسِهِ يُنَافِي مَا هُوَ مَقْصُودٌ لِلْمُسْتَسْقِينَ مِنْ إظْهَارِ التَّبَذُّلِ وَعَدَمِ التَّرَفُّهِ، وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَذَى بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُ بِتَرْكِ التَّطَيُّبِ قَدْ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ اللَّائِقَ فِيهِ احْتِمَالُ الْأَذَى فِي جَنْبِ طَلَبِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ (قَوْلُهُ: مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ) وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ فِي ثِيَابٍ مُبْتَذَلَةٍ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ الْإِضَافَةِ حَقِيقِيَّةً؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِضَافَةِ أَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدُ: أَيْ مَا يُلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ فِي وَقْتِ الشُّغْلِ إلَخْ (قَوْلُهُ: قَالَ الْقَمُولِيُّ وَلَا يَلْبَسُ الْجَدِيدَ) أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَلْبَسَ، فَلَوْ خَالَفَ وَفَعَلَ كَانَ مَكْرُوهًا
[حاشية الرشيدي]
قَوْلُهُ: وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا أَمَرَ بِهِ هُنَا صَارَ وَاجِبًا) قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ الْإِمَامُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ صَوْمُهُ (قَوْلُهُ: مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ) فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ لَا يُنَاسِبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute