قال الله تعالى:{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:١٤٢]، والهداية لا تطلب إلا منه.
ثم قال ربنا:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:١٤٣] الكاف للتشبيه هذا قول، وقال آخرون: إنها مقحمة زائدة، والذي جعلهم يقولون: إنها مقحمة زائدة أنه لم يذكر شيء قبلها حتى يكون هناك تشبيه، لكن لغة العرب تجوز هذا، قال أبو تمام: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر وهذا أول بيت في القصيدة وليس قبله شيء.
فقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:١٤٣] أي: كما أن لله المشرق والمغرب هذا الملك التام له جل وعلا، فبذلك الملك التام له جعلكم جل وعلا {أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:١٤٣] أي: خياراً عدولاً، ولا بد من الجمع بين هاتين الصفتين: خياراً عدولاً، والناس في زماننا أول ما ينطبع في أذهانهم في معنى الوسط الطول، وهذا مكمن الخطأ في القضية، أما الوسط الذي يعرضه عند العرب فهو الذي يكون في العمق، والشيء الذي يكون في وسط المدن لا يناله الأعداء إلا بعد جهد، ولا يصلون إليه إلا بعد مرحلة، ولا بد أن ينتهوا من أطراف البلدة، فهو ممتنع، والوسط في الوادي كمرعى لا يصل إليه الرعاة ولا الدواب إلا بعد الأطراف، فالوسط دائماً ممتلئ عزيز منيع، هذا معنى الوسط، ومعنى قول الله جل وعلا:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:١٤٣] أي: خياراً عدولاً، لكن الناس الآن ينقدح في بالهم الطول، فلا يجدون معنى حقيقياً يتلذذون به في خطاب كلمة وسطاً.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:١٤٣] قال الشنقيطي رحمة الله عليه في أضواء البيان -وطريقته تفسير القرآن بالقرآن-: لم يبين هنا متى تكون هذه الشهادة، وبينها في سورة النساء، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء:٤١ - ٤٢] إلى آخر الآيات، فهذه الشهادة تكون يوم القيامة، تشهد هذه الأمة لأنبياء الله كما جاء الخبر الصحيح في الشهادة لنوح ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بنص القرآن، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:١٤٣].
ثم قال الله:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}[البقرة:١٤٣] هذه توطئة للحدث، يقال: فلان انقلب بمعنى عاد إلى المكان الذي كان فيه، وعاد إلى أصله، فالناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كفاراً، قال الله:{إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}[البقرة:١٤٣] أي: يعود إلى سابق الكفر.
ثم قال الله:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}[البقرة:١٤٣]، هنا كبيرة ليست ما بعد الصغيرة، فالله لا يتكلم عن آثام إنما يتكلم عن هذا الأمر، والتشريع فيه شدة ومشقة؟ على النفوس أي: لا تقبله كل نفس.
{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً}[البقرة:١٤٣] في وقعها {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}[البقرة:١٤٣]، ونظيره في القرآن:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ}[الأنعام:٣٥] أي: عظم واشتد، وليست (كبيرة) المجاورة للصغير أو المجاورة للمم، الله لا يتكلم عن ذنوب، وإنما يتكلم عن أمر رباني مشقته على النفوس عظيمة لولا هداية الله.
قال الله:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:١٤٣] هذا جواب لتساؤل وقع، قال أقوام: ما بال من مات وقد صلى إلى بيت المقدس؟ فأجاب الله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:١٤٣]، فالإيمان هنا المقصود به الصلاة، وهو حجة واضحة لأهل السنة من أن الإيمان قول وعمل؛ لأن الله سمى العمل هنا إيماناً وعبر به عن الصلاة فقال جل شأنه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[البقرة:١٤٣].