تفسير قوله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)
ثم قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:١٢] الآيتان ظاهرتان.
والقرآن -أيها المبارك- فيه محكم ومتشابه، والقرآن كتاب مسطور تقرأه، قال الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} [الإسراء:٩] وقال بعدها: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء:١٢] فالليل: متشابه، والنهار: محكم، فكما توجد في القرآن آيات محكمة ومتشابهة توجد في الكون آيات تدل على ربنا محكمة ومتشابهة، فالمتشابه: الليل، والمحكم: النهار.
وكذلك في القرآن آيات محكمة ومتشابهة، ولا غنى للناس عن الليل والنهار سوياً، فكذلك لا غنى للمؤمنين عن المحكم والمتشابه، قال الله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:٥٠] وهنا قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء:١٢] ولم يقل: آية؛ لأن عيسى ومريم عليهما السلام يمكن الجمع بينهما في وقت واحد، تراهما في وقت واحد عيسى مع أمه، لكن الليل والنهار محال أن يجتمعا في وقت واحد، فإما أن نكون في ليل وإما أن نكون في نهار، فهما ضدان لا يجتمعان، فلما كانا لا يجتمعان ثنى الله جل وعلا فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء:١٢].
ولما كان يمكن الجمع بين عيسى وأمه، وأنه يمكن لأي شخص أن يراهما سوياً؛ قال الله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:٥٠].
قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:١٢] أي: الشمس، وآية الليل هي: القمر.
قال: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:١٢] جعل الله جل وعلا في النهار ابتغاءنا الفضل من الله: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:١١].
وجعل بالليل قيام الحساب والمواقيت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:١٨٩].
نعود فنقول: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:١٢] ثم قال الله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٣ - ١٤].
العرب كانت تستخدم الطائر في الخير والشر تتفائل به وتتشاءم، فورد عنهم لفظ: سارحة وبارحة، يتفاءلون ويتشاءمون بالسارح والبارح، الذي يأخذ ذات اليمين، أو الذي يأخذ ذات الشمال، يقول الكميت الأسدي: ولا السارحات البارحات عشية أمر غراب البين أم مر أعضب ولكن إلى أهل الفضائل والتقى وخير بني حواء والخير يطلب بني هاشم رهط النبي فإنهم بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب يقول العلماء البلاغيون: خاطب الله العرب بجنس كلامهم، معنى الآية: أن الله جل وعلا كتب على بني آدم حظهم من الخير ومن الشر، فهو ملازم له ملازمة الطوق على العنق، وإنما يسمى ما على العنق طوقاً أو قلادة، وما على الساعد: أسورة، وما على الإصبع: خاتماً، وما على الساق: خلخالاً.
وفي المثل العربي الشهير يقال: شذ عمرو عن الطوق، وعمرو هذا رجل شاب وكان ابن أحد الملوك، فكانت أمه عندما كانت تربيه وتعنى به تلبسه طوقاً أو قلادة أو تزينه في الجاهلية، فلما بلغ مبلغ الرجال ترك الطوق.
فيقال في الرجل الشاب إذا أدرك معالي الأمور وتجاوز مرحلة المراهقة وحياة البحث عن الذات: شذ فلان عن الطوق، تجاوز تلك المراحل، تجاوز تلك الأيام.
الذي يعنينا: أن الله جل وعلا شبه عمل بني آدم أنه ملازم له لا ينفك عنه كما أن الطوق لا ينفك عن العنق، ثم يوم القيامة يعرض له.
قال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:١٣] أي: مفتوحاً، وقد مر معنا: سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور.
قال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤] هنا المفسرون يأخذون عبارة شهيرة للحسن البصري أبي سعيد رحمه الله وهو قوله: قد أنصفك من جعلك حسيب نفسك.
{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:١٤ - ١٥] وهذه ظاهرة.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.