للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (عسى ربكم أن يرحمكم وكان الإنسان عجولاً)

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:٨] وعسى من الله واجبة، لكن أكثر المفسرين على أن لها علاقة بما مضى.

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨] قال المفسرون: إن عدتم للإفساد عدنا للتنكيل.

{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:٨] حصيراً بمعنى: مطوقة لهم لا تنفك عنهم، فتلازمهم ولا يستطيعون أن يخرجوا منها.

نقول في جملة ما يمكن أن نبين حول ما ذكرناه على غير قواعد المفسرين: أن الإنسان يجب عليه أن ينصر الله ورسوله، لكن نصرة الله ورسوله تحتاج إلى وعي وإدراك، فليست القضية قضية دعاو، ولا أن يتخبط الإنسان في طريقه، وإنما لا بد من فهم وإدراك تام للكيفية التي ينصر العبد بها دين ربه جل وعلا، أن ينظر نظرة بعين القدر وعين الشرع، وهذا حررناه مراراً، النظر إلى المصالح والمفاسد، فليس الطبيب الحاذق -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- من يهدم مصراً ليبني قصراً.

والآنية في التفكير، وعدم الاستعجال في الثمرة، وأنه ليس شرطاً ولا لزاماً ولا تزكية لنا أن تحرر القدس في أيامنا، فإن الله جل وعلا أخبر نبيه في آيات كثيرة أنه عليك البلاغ وقد نتوفاك وما أريناك الذي وعدناهم، قال تعالى: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:٤٢].

والمعنى: أن الدين ليس مرتبطاً بجيل معين ولا بشخص بعينه، وإنما الإنسان يسعى سعياً على بينة وبصيرة في نصرة دين الله جل وعلا، فكلما كان الإنسان ساعياً للم الشمل وجمع كلمة الأمة والحفاظ على مكتسباتها ومقوماتها كان هذا أثخن في صدر العدو.

وكلما كان الإنسان سبباً في التفريق والشتات وضياع وحدة الأمة ومكتسباتها ومقوماتها كان ذلك أرضى لأعداء الله، قال الله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:٤٦] هذا من جملة ما أردنا بيانه.

ونعود للآيات من باب الصناعات غير التاريخية: قال الله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:٤] العلو هنا يعرب عند النحويين: مفعولاً مطلقاً، وهو يأتي على ثلاثة أنواع: إما مؤكداً لعامله، وإما مبيناً لنوعه أو عدده، وهو هنا مبين للنوع؛ لأنه جاء موصوفاً: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:٤ - ٥] وكلمة بأس في القرآن وردت بعدة معان منها: الحرب، قال الله جل وعلا: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:١٨] أي: ولا يأتون الحرب.

قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء:٥ - ٦] مر معنا أن كلمة: بنين ملحقة بجمع المذكر السالم، فترفع بالواو وتنصب وتجر بالياء.

ومن الملحقات بجمع المذكر السالم كلمة: أهلون، وقد وردت في القرآن: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:١١]، وكلمة: أرضون، ولم ترد في القرآن بل وردت في السنة: (طوق من سبع أرضين).

قال الله تعالى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:٥ - ٧] هذه كلها ليس فيها شيء ظاهر.

نعود للتفسير، قال الله بعدها: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:٩] الآن أنخ مطاياك وقارن؛ قال الله في أول السورة: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:٢]، فالتوراة مخصوصة، أما القرآن فعام، ولهذا قال الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:٩] أي: أن أي أحد يهتدى به، فلم ينزل لقوم بعينهم كما أن التوراة هدى لبني إسرائيل.

قال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:٩] كل ما دعا إليه القرآن فهو قويم وسبيل مستقيم، وهذا أمر حرر فيه العلماء مطولات لكني أذكره إجمالاً.

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء:٩ - ١٠] أي معنى الآيتين: أن القرآن فيه وعد ووعيد.

{وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:١٠ - ١١] معنى الآية: أن الإنسان أحياناً يضجر فيدعو على نفسه وماله وولده إذا غضب بالهلاك مثلما يدعو لنفسه بالخير، بمعنى: أنه إذا ضجر من دابته دعا عليها، وإذا ضجر من ابنه دعا عليه، وإذا ضجر من ماله دعا عليه، فالله جل وعلا يقول: لو كنت مستجيباً في دعائه بالشر كاستجابتي له في دعائه بالخير لهلك الإنسان، ولهذا قال الله بعد: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:١١] قال ابن عباس: أي: ضجراً، لا يرضى ولا يتحمل لا سراء ولا ضراء.

والواو في (يدعو) ثابتة لفظاً لكنها حذفت كتابة، على خلاف بين العلماء لماذا حذفت؟ لكن الذين رسموا القرآن في الأول نلحظ فيهم أن العين إذا جاءت بعدها واو مستقبلة اللام الساكنة يحذفون الواو، ونظيرها قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:١٨] فهي مكتوبة من غير واو لنفس القاعدة، وهناك قرائن أخرى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:١١].

من الفوائد الحياتية يقولون: إن العجلة مكروهة على العموم إلا في أحوال ست، نحاول أن نتذكرها سوياً، العجلة مكروهة في بني آدم إلا في أحوال ست: أولها: الصلاة إذا دخل وقتها، فيعجل بأدائها.

والميت إذا حضر موته يعجل بدفنه.

والبكر إذا أدركت يعجل بزواجها.

والضيف إذا نزل يعجل بإطعامه.

والدين إذا وجد يعجل بقضائه.

والذنب إذا وقع يعجل بالتوبة منه.

وآكدها: الصلاة؛ لأن من قواعد الشرع: أن ترك المأمور أعظم من ارتكاب المحظور، مع أن كليهما عظيم، لكن ترك المأمور أعظم من ارتكاب المحظور.