[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)]
ثم قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:٢٠٩].
السلم هنا بمعنى: الإسلام والمسالمة، وأهل العلم رحمة الله تعالى عليهم اختلفوا في المخاطب أصلاً بهذه الآية، فقال بعضهم: إن المخاطب بها المنافقون، فهذه دعوة لهم في أن يدخلوا في جميع شرائع الدين، وهذا عندي أضعف الأقوال؛ لأن الآية صدرت بقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:٢٠٨].
القول الثاني: أن المخاطب بالآية أولاً هم أولئك الذين اسلموا من اليهود كـ عبد الله بن سلام وأضرابه، فنقل بعضهم -ولا أعلم لهذا دليلاً قوياً سنداً-: أن عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود شق عليهم في الدين أمران: الرضاء بعدم محبة يوم السبت؛ لأن اليهود تعظم السبت، فشق عليهم ألا يعظموا يوم السبت، وشق عليهم أن يحبوا الإبل، ويأكلوا من لحومها؛ لأن الإبل محرمة في ملة بني إسرائيل، قال الله جل وعلا: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:٩٣] وإسرائيل هو يعقوب، والذي حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها، فاليهود لا تأكل لحوم الإبل، ولا تشرب ألبانها، وهذا القول في ظني ضعيف أن يقال: إن عبد الله بن سلام كان يعظم يوم السبت، وكان لا يحب الإبل؛ إبقاءً على شيء من اليهودية، هذا لا يتفق مع ما جاء في سيرته العامة رضوان الله تعالى عليه، خاصة إذا حملنا آية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:١٠] أن المقصود به: عبد الله بن سلام.
والصواب والعلم عند الله: أن هذا خطاب لكل مؤمن أن يقبل شرائع الدين كلها، ولا يفرق بين شيء منها، (كافة) أي: في الإسلام جميعاً في الإسلام كله، هذا هو معنى قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:٢٠٨].
{وَلا تَتَّبِعُوا} [البقرة:٢٠٨] (لا) ناهية، والقرينة على أنها ناهية حذف النون، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:٢٠٨]، وهذا يسوقنا إلى مسألة وهي: أن من قواعد الترجيح أنه إذا اختلف النحاة في شيء فينظر إلى رسم القرآن، فيكون رسم القرآن مرجحاً إن وافق قول أحدهما، والمثال على هذا قول الله جل وعلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:٦]، فـ (لا) هنا اختلف فيها هل هي ناهية أو نافية، والفرق بين (لا) الناهية و (لا) النافية من حيث الأثر: أن (لا) الناهية تجزم، و (لا) النافية لا تجزم ولا تنصب فليس لها أثر نحوي على الفعل، في حين أن (لا) الناهية تجزم، قال بعض العلماء: إن (لا) هنا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:٦] إنها ناهية، بمعنى: أن الله جل وعلا يقول لنبيه: أنا سأقرئك القرآن ويجب عليك ألا تنسى، فنهاه عن النسيان.
وقال آخرون: إن (لا) هنا نافية، والمعنى: أن الله جل وعلا تكفل بإقرائه لك، وتكفل بألا تنساه، إذاً: تنازع النحويون هنا: هل هي (لا) الناهية، أو (لا) النافية، ومن المتفق عليه: أن تنسى جاءت مختومة بالألف المقصورة، فوجود الألف المقصورة يدل على أن (لا) ليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية لما وجدت هذه الألف، فيصبح مجزوماً بحذف حرف العلة، فبقاء حرف العلة في رسم المصحف دليل على أن (لا) هذه نافية وليست ناهية، وهذا من قواعد الترجيح أن ينظر إلى رسم المصحف إذا اختلف النحاة.
والكلام هنا على قول الله جل وعلا: {وَلا تَتَّبِعُوا} [البقرة:٢٠٨]، لكنني جعلت منها طريقاً لتبيين مسألة مهمة وهي معرفة بعض قواعد الترجيح، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:٢٠٨].
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، ونكمل في اللقاء القادم بعون الله تعالى الآية هذه والتي تليها: (فإن زللتم من بعدما جاءتكم البينات) وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.