للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة)]

ثم قال جل شأنه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:٢٢].

أجمع المفسرون على أنها نازلة في حق أبي بكر، وهذه الآية تأخر نزولها، وعليه نعرف أنه لم تنزل هذه الآيات الست عشرة جملة واحدة، بدليل أن أبا بكر أولاً سكت ولم يتصرف، فلما نزلت الآيات ببراءة عائشة تصرف أبو بكر، فمنع إنفاقاً ورزقاً كان يسوقه إلى مسطح؛ لأن مسطحاً كان ممن شارك في القضية، وهذه ظاهر، والكل يعرفه، وإنما تكمن هنا فريدة من فرائد العلم، وذلك أن الله عاتب الصديق لما منع مسطحاً من رزقه، فقال أهل العلم ساجعاً: ما صنعه مسطح ينزل النجم من أفقه، فمنعه الصديق من رزقه، فعاتب الله الصديق في حقه.

أي: ما صنعه مسطح وتقول به ينزل النجم من أفقه، بمعنى: يحط من أي شرف، فمنعه الصديق من رزقه الذي كان ينفقه عليه، فعاتب الله الصديق في حق مسطح.

والفائدة من هذا ألا تكون سبباً في منع أرزاق الناس، فإذا أردت أن تؤدب أحداً فأدبه بأي طريقة كانت، إلا أن تمنعه رزقه؛ لأنه لو كان منع الرزق سائغاً لساغ في حق مسطح، ولكن الله جل وعلا عاتب الصديق فيه حين أقسم على أنه لا ينفق على مسطح، فقال ربنا تبارك وتعالى: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:٢٢] وجمهور المفسرين على أن (يأتل) هنا بمعنى (يحلف): {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:٢٢] وهذه تزكية من الله للصديق؛ لأن الله ذكره في أولي الفضل.

ويلحظ هنا المعنى العظيم في تعبير القرآن حيث قال الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:٢٢] وما قال: والنعيم، أو: الترف، أو: الثراء والغنى، وكلها مفردات قد تؤدي نفس المعنى، ولكن قال: (السعة) وكأنه يشير إلى أن يوسع على نفسه ويوسع على غيره.

قال العلماء: إن التقوى قرينة العفو، فالناس الذين فيهم خصيصة العفو قريبون من التقوى، فالعفو والتقوى متلازمان، وسيأتي تحرير هذا.