للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين)

ثم قال الله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:٥] وهذه نختم بها: فالهمزة للاستفهام، والضرب في اللغة يُطلق على عدة معاني: يطلق على الصنف والنوع من الأشياء، ويُطلق على الرجل الخفيف اللحم، قال طرفة: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد أنا الرجل الضرب أي: الرجل الخفيف، هذا من حيث اللغة, وأما في القرآن فقد ورد الضرب على معان عدة: ورد بمعنى السير في الأرض، قال الله جل وعلا: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:٢٠] أي: يسيرون في الأرض، {يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:٢٠]، وقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:٢٧٣] أي: لا يستطيعون سيراً في الأرض.

وجاء الضرب بمعنى الضرب المعهود سواء كان بالسيف، كقوله جل وعلا: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:١٢]، أو كان بمعنى الضرب باليد، كقوله جل وعلا: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:٣٤] في حق النساء، وأما قول الله جل وعلا: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:٥] فنحرر أولاً معنى كلمة (صفح)، الصفح: هو التغافل عن الشيء إما كبراً، تقول: لويت لفلان صفحة عنقي، أو أن يكون تجاهلاً بحيث يمر بك دون أن تدري عنه، قال الشاعر: تمر الصبا صفحاً بساكنة الغضا ويصدع قلبي أن يهب هبوبها قريبة عهد بالحبيب وإنما هوى كل نفس حيث حل حبيبها والصبا ريح معروفة، فيقول: هذه الصبا تأتي من ديار من أحب فتمر على بني قومي الذين أعيش معهم صفحاً، أي: يتغافلون عنها، وليس ذلك كبراً؛ لأنه لا يوجد كبر مع الرياح، لكن لأنها لا تعنيهم، وأما أنا -يتكلم عن نفسه-: ويصدع قلبي أن يهب هبوبها فهذا الصفح هو الإعراض عن الشيء إما كبراً وإما تغافلاً، {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:٥] اتفقوا على أن المعنى: ليس إعراضكم سبباً مقنعاً لأن نترك إنذاركم، لكن اختلفوا في معنى الذكر: فذهب ابن عباس في رواية عنه وبعض العلماء إلى أن الذكر هنا المقصود به ذكر العذاب، فيصبح المعنى: أفيعقل أن نترك عذابكم لمجرد أنكم أعرضتم عن ذكر الله! وقال آخرون: إن الذكر هنا بمعنى الوعظ والإرشاد، وهذا الذي أرجحه، فيصبح المعنى: كيف يسوغ لكم أن تطالبونا بأن نترك وعظكم وإرشادكم وبيان الحق لكم بسبب أنكم قوم معرضون! وهذه الآية قريبة من قول الرب تبارك وتعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:٣٦]، وهذان المعنيان يرجحن الآخر منهما.