للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رجوع موسى من مدين بعد فراره إليها]

وقال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠].

قوله: ((فَلَبِثْتَ سِنِينَ))، هذا إبهام لعدد السنين، فلم يحدد الله تعالى عدد السنين، لكن عدد السنين لا يمكن أن يخرج عن ثمان أو عشر، وقد عرفنا أن هذا الإبهام لا يخرج عن ثمان أو عشر من قول العبد الصالح كما حكا الله في سورة القصص عنه أنه قال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:٢٧].

فهنا فسرنا القرآن بالقرآن، فتفسير القرآن بالقرآن أجلى لنا الصورة بنسبة ثمانين في المائة، وهي أن السنين أصبحت محصورة في الثمان والعشر، ثم جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل: ما الأجل الذي قضاه موسى؟ فقال: أتم أوفى الأجلين)، فعلمنا هنا أن السنين التي أبهمها الله في سورة طه هن عشر سنين، عندما اتخذنا طريقاً علمياً بحتاً متدرجاً كما هو ظاهر.

وكلمة (سنين) تسمى عند النحويين من الملحقات بجمع المذكر السالم، فترفع بالواو، وتنصب وتجر بالياء، وقد يرد

السؤال

لماذا لا يقال لها مباشرة جمع مذكر سالم، مع أنها ترفع بالواو، وتنصب وتجر بالياء؟

و

الجواب

أن جمع المذكر السالم لا تتغير صورة مفرده إذا جمع، فتقول: مدرس مدرسون، مهندس مهندسون، إنما يزاد واو ونون في حالة الرفع، أو يزاد ياء ونون في حالة النصب، لكن كلمة (سنة) إذا جمعت على (سنين) لم يسلم مفردها، بل يتغير؛ ولهذا قال النحويون: إن هذه الكلمة ومثيلاتها تسمى: ملحقات بجمع المذكر السالم.

ومما ورد في القرآن من ملحقات جمع المذكر السالم كلمة (بنون) قال الله جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٤٦].

وكلمة (أهلون) قال الله جل وعلا: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:١١]، (أهلون): فاعل مرفوع؛ لأنه معطوف على فاعل، وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.

أما في السنة فوردت كلمة أرضين، قال عليه الصلاة والسلام: (طوق من سبع أرضين) فأرضون ملحقة بجمع المذكر السالم إلا أنها لم ترد في القرآن، وإنما وردت في السنة.

قال الله: ((فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ))، هذه السنين كنت فيها معززاً مكرماً، محفوظاً آمناً من بطش فرعون، ثم قال الله له: ((ثُمَّ جِئْتَ)) إلى أي مكان؟ إلى هذا المكان الذي أنت فيه، الذي تخاطب فيه ربك، ثم جئت من أرض مدين إلى جبل الطور، إلى الوادي المقدس ((عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى))، وأنت تعلم أن كل شيء خلقه الله بقدر، لكن القدر هنا قدر خاص، والمقصود به العناية العظيمة بكليمه موسى، أي: جئت لأمر أعددناه، لم تتأخر عنه ولم تتقدم، ولحكمة أرادها الله جئت في هذا الوقت بالذات لأنبئك وأرسلك وأجعلك كليماً مصطفى على أهل زمانك، ولذلك قال الله له: {يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤].

وهذا المعنى قد فهمه الشاعر جرير حين قال يمدح عمر بن عبد العزيز: نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر فهذا المعنى قد فقهه جرير، وهو أن هناك معنى خاصاً للقدر وليس هو القدر العام، وإن كان يقيناً يندرج هذا في القدر العام بلا مراء.

وجرير -وهذا من باب الاستطراد النافع- هو أحد الشعراء الأمويين الذين يستشهد بشعرهم، فكون طالب العلم يلجأ إلى شعر جرير فيقرؤه ويبحث عن معانيه ويغوص في أعماقه، هذا مما يعينه على فهم كلام الله، وجرير أعطي قدرة على السحر بالمبنى، لا السحر بالمعنى، فليس في شعره كبير معان، لكن لديه قدرة في السبك بين الأبيات، أو بتعبير أصح: السبك بين الألفاظ، وهذه روح الشعر وحقيقتها، ولا تأتي إلا من الدربة؛ ولهذا يقل هذا الإتقان في شعر العلماء؛ لأن الإتقان والدربة عندهم قليلة، فلو أتيت برجل حافظ للقرآن، متقن للخطابة، فيعني ذلك لزاماً أنه مشغول أكثر وقته بقراءة القرآن والنظر في كتب العلم، وهذا بالضرورة يعني عدم قراءته للشعر كثيراً، فلا يكون هناك سبك جيد وقد يكون أقرب إلى النظم.

لكن إذا كان الإنسان أكثر قراءته في الشعر فستكون عنده معرفة بروح الشعر، ولذلك كل من اشتهر بالشعر، وأصبح إماماً فيه لا يكون إماماً في شيء آخر، من أصبح إماماً في الشعر محال أن يكون إماماً في غيره؛ لأن هذه منزلة يطلب منها التجرد عما غيرها، بخلاف غيره، لكن قد يكون الإنسان ملماً بكل ذلك، كالإمام الشافعي مثلاً، فقد كان إماماً في اللغة، إماماً في القراءات، إماماً في النحو، فجمع فنوناً هو فيهن رئيس وسيد، لكنه لم يكن إماماً في الشعر كـ جرير، والمتنبي، وأبي تمام، والبارودي، وشوقي وغيرهم؛ فهؤلاء لم يفعلوا في الشعر إلا لأنهم قلما يجيدون شيئاً آخر من الناحية الفكرية.

نعود فنقول: إن الرجل سحر الناس بمبانيه ولم يسحرهم بمعانية، ومن ذلك قوله: أتنسى إذ تودعنا سليمى بفرع بشامة سقي البشام فما وجد كوجدك يوم قلنا على ربع بناظرة السلام تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكمو علي إذاً حرام وهذه من حيث المعنى ليس فيها كبير معنى، فإنه يتكلم عن المعشوقة وهو خارج من الديار، فقد أعطته عود البشام، ثم خرج يمر على ديار اسمها ناظرة، أي: مكان اسمه ناظرة؛ ولذلك لم يجر بالكسرة في الأبيات، فيسلم على أهله ويمر، ويعاتب قوماً لم يمروا عليه ويزوروه، وهذا إلى اليوم يجري بين الناس، لكن الله أعطاه سبكاً لفظياً، جعل لشعره صيرورة بين الناس، ومن ذلك قوله: بان الخليط ولو طوعت ما بان وقطعوا من حبال الوصل أقرانا حي المنازل إذ لا نبتغي بدلاً بالدار داراً ولا الجيران جيرانا يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي علي فؤادي كالذي كانا لو تعلمين الذي نلقى أويت لنا أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا وحبذا نفحات من يمانية تأتيك من قبل الريان أحيانا فليس في الأبيات كلها كبير معنى، لكنها تجري على اللسان وإذا بدأت بها تعجز أن تقف قبل أن تكملها؛ ولهذا كان شعره يسير بين الناس في البوادي والقرى والمدن كسيران النار في الهشيم؛ لأن القضية قضية سبك لفظي في المقام الأول، وهذا مهم جداً في فهم لغة القرآن؛ لأن أكثر من يخطئ في القرآن من أسباب الخطأ عدم فهم ألفاظ القرآن، وأن المقصود من بعضها المعنى العام وليست الحرفية التي تنظر في قواميس اللغة، هذا استطراد في معنى قول الله جل وعلا: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠].