للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ذلك مما أوحى إليك ربك وما يزيدهم إلا نفوراً)

ثم قال ربنا: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:٣٩]، قبلها بآيات قال في فاصلة ما بين آيات وآيات: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:٢١]، ثم أتى بآية بعدها سأتركها: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣].

ما بين هاتين الآيتين قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢]، وهنا قال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:٣٩]، فتحررت أربعة أوصاف: الآية الأولى قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢] هذان وصفان، وفي الأخرى قال: ملوماً مدحوراً، وسنبين معاني هذه الأوصاف، ثم نبين لماذا قال الله: {مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:٣٩] وقال: {مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢]؟ أما الملوم: فهو الذي يقال له: لم فعلت كذا وكذا من قبيح الأفعال؟ وأما المذموم: فهو من يخبر بقبيح ما فعل.

وأما المخذول: فهو الضعيف الذي لا ناصر له.

وأما المدحور: فهو المطرود المبعد عن كل خير.

الآن نجمع شتات الآيات، بداية نقول لغوياً: إن القعود يعني: العجز، فقعد عن الشيء أي: عجز عنه، قال الحطيئة يهجو أحدهم: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فالتعبير بلفظ: اقعد يدل على أن هذا المهجو عاجز عن أن ينال مراتب الشرف، وينافس في الإطعام والكسوة والخيرات فشبهه بالنساء، والطاعم الكاسي هنا أي: مطعوم مكسي، هذا أصل الكلام، فالعرب تستخدم اقعد في العجز؛ ولهذا جعل الله القاعدين ضد المجاهدين في سورة النساء، وكذلك القواعد من النساء اللاتي إذا كبرن لم تكن لهن رغبة في الرجال.

هنا ربنا يقول: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ} [الإسراء:٢٢] يعني: تصبح عاجزاً، قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢]، والآية التي بين يدينا: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:٣٩]، نقول: ينبه الله في الآيتين -وإن جاءتا متفرقتين- على أن التوحيد رأس الدين ورأس الحكمة، ومبدأ الأمر ومنتهاه؛ ففي الآية الأولى: رتب الله آثار الشرك الدنيوية، فقال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا} [الإسراء:٢٢] من الناس، {مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢] من ربك، وهذا في الدنيا، وفي الآية الثانية: أعاد الله الآيات بقوله: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:٣٩]، فذكر آثار الشرك في الآخرة.

إذاً: لا يوجد تكرار كما يفهمه البعض بادي الرأي، وإنما نهى الله عن الشرك في الآية الأولى، ورتب عليه الآثار الدنيوية، وذكر الشرك ونهى عنه في الآية الثانية، ورتب عليه الآثار الأخروية، قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:٣٩].

ثم قال الله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:٤٠]، هذا عود على بدء، فقد ذكر ما كانت بعض العرب تزعمه من أن الملائكة بنات الله، وعبارة (اتخذ) توحي بأن القرشيين قائلون بهذا، لا يقولون: إن الله ولد بنات، لكنهم يزعمون أن الله خلق الملائكة على هيئة بنات ثم اتخذهم بنات له؛ لأن لفظ (اتخذ) لا يساعد على القول بأنهم يدعون أن الله ولد البنات، تعالى الله على كل حال عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

فالله جل وعلا يقول: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء:٤٠]، هذا استفهام إنكاري توبيخي، كيف تجرءون على أن تنسبوا لله الولد جملة، ثم تنسبوا إليه أبخس الولد وهي الأنثى؟ {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:٤٠].

وهذا التعبير القرآني فيه شدة إنكار، ومبالغة في الرد عليهم، أي: لو كانت لكم قلوب تفقه، وعقول تعقل، لما تكلمتم بهذا القول العظيم؛ ولهذا قال الله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:٤٠]، ثم قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء:٤١].

وتصريف الرياح معناه: انتقالها من مكان إلى مكان، والمعنى: أن القرآن فيه وعد ووعيد، وأوامر ونواه، وقصص وزواجر، فالله جل وعلا لم يجعله على نسق واحد، بل صرف فيه الآيات كل ذلك ليكون أدعى لهم لأن يتعظوا ويعتبروا، لكن لما فطرت قلوبهم على الشرك عياذاً بالله ما زادهم هذا التصريف في آيات الله إلا نفوراً وبعداً عن الحق، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء:٤١].