{وَجَعَلَهَا}[الزخرف:٢٨] الجاعل هو إبراهيم على الصحيح، وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الخلاف قائم في فاعل جعل هل هو عائد على لفظ الجلالة أو عائد على إبراهيم، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:٢٨].
والمفسرون من حيث الجملة يقولون: إن هذه الكلمة العظيمة -وهي البراءة من الشرك وأهله؛ موالاة الله رب العالمين جل جلاله، وهي كلمة التوحيد وقيلت بمعنى: لا إله إلا الله- جعلها إبراهيم علامة وشعاراً لدينه، وجعلها باقية في عقبه؛ رجاء أن قومه إذا حادوا عن الطريق رجعوا إلى تلك الكلمة، الكلمة، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ}[الزخرف:٢٨ - ٢٩]، (هؤلاء) أي: المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، (وآبائهم) أي: الذين لم يشهدوا نبوته من آباء من كان حياً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، (بل متعت هؤلاء وآبائهم) أي: بالنعم والعطاء، ومن كثرت عليه النعم وطول الأمد قسا قلبه، فحادوا عن الكلمة التي جعلها إبراهيم باقية في العقب، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ - أي: القرآن- وَرَسُولٌ مُبِينٌ}[الزخرف:٢٩] أي: محمد صلى الله عليه وسلم، {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف:٣٠]، هذه سذاجة.
نعود إلى قول الله جل وعلا:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:٢٨]، هذا الذي عليه أهل التفسير، ونقول: إن المعنى هنا غير واضح؛ لأننا نؤصل أولاً أن هناك إنفكاكاً وانقطاعاً تاماً بنص القرآن ما بين نبوة إبراهيم ورسالته وبين كفار مكة، ولا يمكن أن يؤخذ هذا القول، وجعل الأمر كالطريق الواحد محال؛ لأن الله جل وعلا قال في آيات محكمة:{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ}[سبأ:٤٤]، ومر معنا في اللقاء الذي قبل أن الله تبارك وتعالى قال:{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}[الزخرف:٢١]، وقلنا: إن هذا دليل نقلي على أنه ليس لديهم كتاب يخبرهم عن شيء، فإذا نفى الله عنهم النذارة، ونفى الله عنهم الكتب انقطع اتصالهم الديني بإبراهيم، فيكون قول الله جل وعلا فيما يبدوا لي:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}[الزخرف:٢٨] أي: في خواص عقبه وفي أقرب أهله إليه: في إسماعيل وإسحاق ومن كان آنذاك معاصراً له في العراق وبلاد الشام؛ حتى يكون سبباً في نشوء هذه البيئة الصالحة، وتكون سبباً ومؤثرة فيمن جاورهم.
وقلت في اللقاء الماضي: إن من القرائن على صحة الرأي أن الله لم يذكر أنه استأصل من كفر بإبراهيم بالكلية، فلم يرد في القرآن فيما نعلم ولا في السنة فيما نحفظ أنه جاء ذكر أن الله استأصل خصوم آل إبراهيم بالكلية، فالله لما ذكر أنهم حاولوا حرقه ذكر أنه نجاه، ولم يذكر هلاكهم، وإبراهيم مر على العراق الشام ومصر، فكل هذه الديار طافها، فلم يكن له بيضة معينة، بيضة بمعنى حوزة أي: ليس له مكان مستقر واحد، وإنما كان طوافاً، ولذلك تبنته الأمم كلها.