تفسير قوله تعالى:(يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده إلى قوله: إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً)
ثم قال ربنا:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ}[الإسراء:٥٢] للبعث، {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:٥٢]، أي: يوم يدعوكم عن طريق ملائكته، ينفخ إسرافيل في الصور ويدعوهم الرب للبعث والنشور.
قال الله جل وعلا:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}[الإسراء:٥٢] الباء هنا للإلصاق، قال سعيد بن جبير: إنهم ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لكنها لا تنفعهم يومئذ، وقال بعض العلماء ولعله أظهر: إنهم إذا بعثوا علموا أن الله هو الحق وتبين لهم ما كانوا يردونه من قبل فيقولون: الحمد لله، كما قال الله جل وعلا في خاتمة الزمر:{وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الزمر:٧٥]، ولا ريب أن في يوم القيامة ثمة كلمات تخرج من أهل الكفر لا يقصد منها التعبد ولا يثابون عليها، لكنهم يقولون ذلك لما رأوه من حقائق، ولما انكشف عندهم من غطاء.
قال:{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:٥٢]، وهذا اللبث القليل ذكره الله جل وعلا في أكثر من آية:{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}[المؤمنون:١١٢ - ١١٣] والمقصود: أن أيام الدنيا تطوى حتى يراها الناس عشية أو ضحاها، قال:{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:٥٢].
قال الله بعدها:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:٥٣]، العلماء في هذه الآية مختلفين؛ لأن السورة مكية، فاستصحبها البعض على القول بأن الخطاب للمؤمنين وأنتم في مجتمع قرشي كافر، فاختاروا الخطاب الجميل معهم وإن أغلظوا عليكم؛ حتى لا تهيجوا الشر في أنفسهم، وحتى يكون ذلك أدعى لأن يدخلوا في دينكم، وهؤلاء قالوه مستصحبين قضية أن الآيات مكية في مجتمع قرشي، ولا يبدو لي أن هناك قرينة تدعو إلى هذا القول.
والأظهر: أن الآية مخاطب بها المجتمع المؤمن، أما كيف تحمل على المجتمع المكي: فإن المؤمنين في مكة كانوا قلة، فهم أحوج إلى التكاتف والترابط، فالله جل وعلا يدعوهم في هذه الآيات إلى أن يبتعدوا عن الأقوال التي لا طائل من ورائها، والتي تحتمل الشر فينجم بعد القول فعل، فيكون خطاب المؤمن للمؤمن متحل بالصدق والاستعطاف، حتى لا يكون سبيلاً للشيطان في أن ينزغ بين المؤمنين فيضعفهم وهم أصلاً قلة في مجتمع الإشراك، ويمكن تطبيق هذه الآية حتى على المجتمع الأكثر.
{وَقُلْ لِعِبَادِي}[الإسراء:٥٣] والإضافة إضافة تشريف، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء:٥٣]، يختاروا الجميل من الخطاب، وقد أيدت السنة هذا المنحى، فجاء في السنة: المنع عن أن يشير الإنسان بالسلاح إلى أخيه المؤمن خوفاً أن ينزغ الشيطان فيه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء:٥٣] وأصل النزغ في اللغة: الطعن بسرعة، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:٥٣].