تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار تسطع عليه صبراً)
ثم قال له: {وَأَمَّا الْجِدَارُ} [الكهف:٨٢]، وهي آخر القضايا، فالذي دفعني إلى إصلاحه وتقويمه رغم لؤم أهل القرية أنه كان لغلامين يتيمن في المدينة.
واليتيم في بني الإنسان من فقد أباه دون البلوغ، وفي الحيوان من فقد أمه دون أباه؛ لأن الحيوان لا يعرف أباه، وفي الطير من فقد أباه وأمه، ووجه الشاهد هنا: اليتيم المعروف.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ} [الكهف:٨٢] أي: تحت الجدار، {كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:٨٢]، أي لليتيمين، ولو قدر وترك هذا الجدار على حاله فإنه ينقض ولو انقض لتسلط الأشرار على الكنز، وليس لليتيمين قدرة ولا شدة ولا بلغة في الدفاع عن نفسيهما؛ لأنهما ضعيفان.
قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:٨٢] فأراد ربك، فنسب الفضل إلى الله، وتأدب مع الله جل وعلا، ولم ينسبه إلى نفسه، وفي خبر السفينة نسب إرادة العيب إلى نفسه، قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩]، وقد مر معنا في دروس متكررة أنه كذلك من أرفع المقامات حسن الأدب مع الله، وأعظم الأدب مع الله توحيده، سئل عليه الصلاة والسلام: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك)، فمن وحد الله جل وعلا عرف طريق الأدب الحق مع الله تبارك وتعالى، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:٨٢]، أي اليتيمين، واليتيم يبتلى بأمرين: بلوغ الأشد البدني يكون بالقدرة على النكاح، ويبلغ الأشد العقلي بأن يختبر، فإذا تصرف تصرفاً راشداً في ماله سلم له ماله، وإذا اجتمعت فيه قوتان: قوة البدن وقوة العقل، فقوة البدن عبر عنها بقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:٦]، وقوة العقل عبر الله عنها بقوله: {َإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:٦].
فنقول: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:٨٢] أي: بعد أن يبلغا أشدهما، وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:٨٢]، هذه ضمناً جاءت لتبين أن أعظم ما يدخره الآباء للأبناء أن يكون الآباء صالحون في أنفسهم، وقد قيل: إن هذا الأب المقصود هو الجد السابع لليتيمين، وهذا غير بعيد لكن الأولى إمرار القرآن على ظاهره، فقوله جل وعلا: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:٨٢]، إنما ينصرف في لغة العرب أول ما ينصرف إلى الأب المباشر، ولا ينصرف إلى الجد، وإن كان يصح تسمية الجد أباً، لكنه ينصرف أول ما ينصرف إلى الأب.
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:٨٢]، فبرحمة الله جل وعلا لهذا الوالد في قبره، وهو ميت لصلاحه سخر الله موسى والخضر يتجاوزان البحار والقفار ليقيما جداراً تحته كنز من أجل يتيمين، فمن استودع الله شيئاً حفظه تبارك وتعالى؛ ولهذا لن تودع أحداً شيئاً أعظم من أن تودعه عند الله، وأعظم ما تودعه الله جل وعلا دينك؛ ولهذا نقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبنا على دينك.
وانظر إلى الأدب في قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:٨٢] فأخرج نفسه، وكأنه يقول: أنا مجرد آلة تنفذ، حتى لا يفهم أن هناك شفقة غير منبعثة من شيء خارجي من الخضر نفسه، ولكنه أسند هذا الأمر وجعل غدوه ورواحه وصنيعه إنما هو رحمة من الله، جعله الله رحمة للخلق.
ثم زاد الأمر توكيد بقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:٨٢]، و (ما) نافية، أي: ما فعلته بتصرف مني، وقد قلنا: إن هذه الآية من أعظم الأدلة على أن الخضر كان نبياً، وإن كان الناس أي العلماء اختلفوا فيه، هل هو نبي أو لا، وقلنا: واختلفت في خضر أهل العقول قيل: نبي أو ولي أو رسول لكن الذي يظهر عندي -والعلم عند الله- أن القول بنبوته يقطع الخلاف فيما حام حوله من كثير من التأويلات، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ} [الكهف:٨٢] أي: الذي صنعته ورأيته وشاهدته وبصرته لك وبينته إليك، {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٨٢]، فخفف المسألة؛ لأنها قد حلت العقد، واحدة بعد الأخرى، وانتهى الأمر إلى أن قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٨٢].
وهنا قلنا: نكرر أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، وأن الخطاب في الأول كان يناسب حال موسى ومقامه، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} [الكهف:٧٨] ثم انتقل الأمر إلى أن قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٨٢].