[تفسير قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم]
يقول الله جل وعلا: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الأحزاب:٢٦] ومعنى: {ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الأحزاب:٢٦].
أي: ظاهروا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وكلمة (أنزل) تدل على إهباط من مكانٍ عالٍ، وكانت لبني قريظة حصون، تحصنوا بها، فالله جل وعلا أنزل أولئك من حصونهم، فقال الله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:٢٦].
و (صياصي) بمعنى: حصون، مفردها صيصة، ويقال لقرني البقر صياصي؛ لأن البقر بقرنيه يدافع عن نفسه.
ثم قال الله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:٢٦] القذف في اللغة: الإلقاء السريع.
ومما آتى الله النبي صلى الله عليه وسلم أنه نصر بالرعب.
ثم قال تعالى: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [الأحزاب:٢٦] أي: من أهل بني قريظة.
{وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:٢٦]، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في بني قريظة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وسعد بن معاذ سيد الأوس، وهو صحابي جليل معروف، ولما مات فرح أهل السماوات بصعود روحه.
قال ابن القيم معلقاً: فإذا كان هذا فرحهم بصعود روح سعد وهو خير من خير الأصحاب، فكيف فرح أهل السماوات بصعود روح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فـ سعد رضي الله عنه لما حكم قدم به -وكان مريضاً، أصابه سهم- إلى الأنصار، وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم وبنو قريظة ينظرون، فقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا لسيدكم) فلما طلب منه أن يحكم وكان رجلاً عاقلاً، مع أنه لم يتجاوز السادسة والثلاثين، أي: أنه كان صغيراً، لكنه كان جسيماً رضي الله عنه وأرضاه، رجلاً طوالاً، فقال: هل ينفذ حكمي على هؤلاء؟ يقصد بني قريظة، قيل له: نعم، فتأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: وعلى هؤلاء.
ولم يشر بوجهه إلى النبي عليه الصلاة والسلام أدباً.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم.
ومن هنا يفهم: أنك لا تقبل أن تكون حكماً حتى يرضى بك الطرفان، فإن لم يرض بك الطرفان فلا تقبل أن تحكم أو تقضي، فإن رضيا بك فخذ منهم ميثاقاً على أن يرضوا بحكمك؛ حتى لا يذهب قولك هدراً، وحتى تقيم الحجة عليهم، فلما قيل له ذلك رضي الله عنه وأرضاه، قال: لقد حكمت فيهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم ونساءهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (لقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد!) وجاء الحديث بعدة روايات.
والنبي عليه الصلاة والسلام لما قبل حكم سعد في بني قريظة، وكان من السبي فتىً لم يبلغ الحلم بعد، يقال له: كعب القرظي، وكعب كبر وأسلم، وجاء بولدٍ اسمه محمد وأصبح اسمه محمد بن كعب القرظي، وهو من أئمة أهل التفسير، وإذا من الله على الإنسان بالاستمرار في هذا الفن من العلوم وهو فن التفسير، فسيمر عليه كثيراً اسم محمد بن كعب القرظي؛ لكونه أحد أئمة التفسير رحمة الله تعالى عليه، رغم أنه من أصل يهودي.
لكن فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
الذي يعنينا هنا قول الله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:٢٦] وهذا بناء على حكم سعد.