للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان معنى قوله تعالى: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)]

قال تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:١٤١]، أوغل بعض العلماء في تفسير هذه الجملة فقالوا: هي في الزكاة، ونسبوا إلى أحد الصحابة من الأنصار أنه كان إذا جاء يوم حصاده تصدق بماله كله وبقي فقيراً، وهذا القول مردود من باب أن هذه الآية مكية ولم تكن وقت إسلام الأنصار في المدينة، فلا يمكن حملها على الأنصار، ثم أنه ليس لها علاقة بما يؤتى الفقراء من الزكاة، فليست متعلقة بقوله جل وعلا: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:١٤١]، وإنما هي متعلقة بقوله جل وعلا: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:١٤١].

والفرق بين الإسراف والتبذير أن الإسراف: الزيادة في الشيء الذي له أصل، أما التبذير فهو الزيادة في الشيء الذي لا أصل له، فالتبذير أعظم من الإسراف، ولهذا قال الله جل وعلا: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:١٤١]، وقال في حق التبذير: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:٢٧].

وإذا أردت دائماً أن تعرف الفرق بين أمرين فانظر في وصف الله جل وعلا لهما ولعاقبتهما، فالزنا ونكاح زوجة الأب كلاهما محرم شنيع، ولكن الزنا أهون من نكاح زوجة الأب، فإن قال قائل أين الدليل؟ قلنا: التفريق القرآني، حيث قال الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:٣٢]، ولما ذكر الله نكاح زوجة الأب قال: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:٢٢]، فزاد جل وعلا قوله: (مقتاً)، وهذا التدبر في القرآن والنظر في الفوارق بين آياته يضفي على كلامك عندما تنصح أو ترشد علماً جماً، فيورثك ثقة بنفسك، وهذا أمر مهم جداً، أعني أن تنطلق من قناعة عن نفسك؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان من يتصدر للبحث العلمي وللكلام مزعزعاً لا يقف على أرضية صلبة فمحال أن يقتنع الناس به، ومحال أن يملك تأثيراً في القلوب، اللهم إلا في الضعفاء، فلتبدأ قوتك من ذاتك، والحصانة العلمية تعطيك القدرة على التصدر ومعرفة الشيء وإدراكه قبل التفوه به للناس.

ولا تتعجل في كل شيء تسمعه فتنقله إلى غيرك قبل أن تمحصه؛ لأنك إن لم تمحصه لم تزل في دائرة في التقليد، ولكنك إن محصته وعرضته على عقلك المستند على شرع الله جل وعلا كنت قوياً حين عرضه، حتى لا يرد الناس عليك كلامك، وهذه هي حقيقة العلم.

هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسني وإياكم لباسي العافية والتقوى.

وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.