[الكلام عن أسماء سورة الإسراء والإرهاصات التي سبقت الحادثة]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنشرع في هذا اللقاء المبارك -إن شاء الله تعالى- في تأويل سورة الإسراء، فنقول بداية: سورة الإسراء سورة مكية بالاتفاق، إلا بعض آيات منها كانت محل خلاف، ومنها قول الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:٨٥].
أما بالنسبة لاسمها: فلها اسم توقيفي، واسمان اجتهاديان، أما الاسم التوقيفي فهو: سورة الإسراء، وبه دونت كثير من المصاحف، أما الاسمان الاجتهاديان فأحدهما أشهر من الآخر، فالاسم الاجتهادي الأول: أنها تسمى سورة بني إسرائيل، وقد جاء هذا على أقوال بعض الصحابة، كقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -كما عند البخاري -: إن بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، لمن تلاد ومن العتاق الأول.
والعتاق: جمع عتيق، والمقصود بها: إما ما بلغ الغاية في الجودة، أو ما كان حسناً قديماً، كما أن كلمة (تلاد) تأتي ضد كلمة طارف، فالعرب إذا ملكت شيئاً حاضراً جديداً تسميه طارفاً، وإذا تكلمت عن ملك قديم سمته تلاداً.
ومقصود ابن مسعود بكلامه عن هذه السور المباركات: الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: أنها من أوائل ما أنزل، ومن أوائل ما أخذه عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
أما الاسم الأخير الاجتهادي فهو: سورة سبحان، وهذا وجد عند بعض المفسرين كـ ابن عطية والثعالبي، فقد أطلقوا عليها اسم: سورة سبحان، هذا بالنسبة لتحرير الأقوال في تسمية السورة.
وقد سميت بالإسراء لأن الله جل وعلا ذكر في أول آياتها المعجزة التي كرم بها نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بأن أسرى به جسداً وروحاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
نلج الآن إلى باب التأويل: قال ربنا وهو أصدق القائلين: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:١]، بداية نقول: إنه لا يمكن أن نفسر القرآن بمعزل عن السيرة، ثم لا بد أن نفسر القرآن ونحن نعلم أنه من عند الله مع استصحابنا لعظمة الله، فجمع هذه الأمور بعضها إلى بعض يعينك في التفسير.
لقد بعث الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق، فاضطهده قومه وأصحابه، لكنه قلب جميع الطرائق في الوصول إلى هداية الناس، ومن تلك الطرائق التي اتبعها أن ذهب إلى الطائف، فلما ذهب إلى الطائف رده أهلها، فلما عاد من الله عليه بسماع الجن له: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:١]، ثم دخل مكة بعد أن منعته قريش بجوار المطعم بن عدي، وقد كان صاحبه في تلك الرحلة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم صاحب تلك الأحداث موت خديجة كنصير داخلي، ومات عمه أبو طالب كنصير ظاهر رغم شركه.
ومات عمك والأعداء في الأجم.
في هذه الأجواء عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، بعد أن أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقدم الله في القرآن هذا الخبر القرآني بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:١]، وهي: مصدر لازم للإضافة يراد به تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، ولا يمكن لمن يفقه لغة العرب، ويرى أن الله قدم لهذا الحدث بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:١]، إلا يستبين له أن الحدث حدث عظيم، خارج عن المألوف، معجزة وكرامة لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا قدم الله جل وعلا بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:١]، وهذا يدفع قول من يقول: إن الإسراء والمعراج كان رؤيا، فالرؤيا المنامية التي يراها الإنسان -أياً منا- مهما عظمت وبلغت لا تعد أمراً خارجاً عن المألوف، فلا حاجة لأن يتصدر الخطاب القرآني بقوله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:١]، والسرى: المشي ليلاً، يقال: أسرى، ويقال: سرى، تقول: أسريت وسريت.
ولما كان الإسراء هو المشي في الليل ومع ذلك ذكر الله كلمة (ليلاً)، هذا دفع البلاغيين لأن يجيبوا عن هذا الإشكال بقولهم: إن كلمة (ليلاً) جاءت نكرة، فإما أن تكون للتقليل فيصبح المقصود: إظهار القدرة، بمعنى: أن هذا الإسراء تم في برهة وجيزة من الليل، وإما أن يكون المقصود من تنكيرها: التعظيم، والمعنى: ليل وأي ليل فيه دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه، هذا تخريج.