الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}[طه:٥٦]، المخاطب هنا هو فرعون بالاتفاق، وقد مضى معنا ما أظهره موسى لفرعون من الآيات، وينبغي أن تعلم قبل أن نقص عليك ما في هذه الآيات من عبر وعظات، ودلائل وآيات، أن هذه الأمور لم تتم في برهان، وأنه ليس بمجرد أن دخل موسى على فرعون تمت القضية كلها، ولكنها مرت عبر سنين، فموسى عليه الصلاة والسلام استوطن أرض مصر فترة طويلة قبل أن يخرج منها، وما ذكره الله جل وعلا من خبر قارون وهلاكه:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}[القصص:٨١]، إنما كان قبل خروج موسى من أرض فرعون, ووجدت له صراعات، منها: أن الله جل وعلا أمره أن يتخذ بيوتهم قبلة، وأن الله جل وعلا أمره بأمور كثر، ومرت الآيات كالطوفان والجراد والقمل والضفادع وهذا كله حصل على مراحل زمنية طويلة، وأن الله جل وعلا أرحم من أن يعذب من غير أن يعطي فترة زمنية لمن أراد أن يعذبهم، وإنما لا يهلك على الله إلا هالك، والشقي من لم تتداركه رحمة الله تبارك وتعالى، وفرعون إنما أهلكه شقاؤه وعناده ومكابرته سنين طويلة.
فهنا يقول الله جل وعلا:{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}[طه:٥٦]، (آياتنا) جاءت بالكسر؛ لأنها جمع مؤنث سالم، وجمع المؤنث السالم ينصب بالكسرة نيابة عن الفتحة، وقد أكد بتوكيد معنوي هو كلمة (كل)، ولهذا كلمة (كل) جاءت منصوبة؛ لأنها أكدت اللفظ، واللفظ منصوب.
والمقصود بكلمة (كل) هنا كل الآيات التي كتب الله أن يعطيها موسى حجة على فرعون، وكلمة (كل) لا تفيد عدداً، لكن العدد جاء مبيناً في سورة أخرى، قال الله تعالى:{فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}[النمل:١٢]، وهذه التسع الآيات قد مرت معنا كثيراً، وهي: اليد والعصا، هذه اثنتان، وقال الله:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}[الأعراف:١٣٠]، وهذه اثنتان، مع الأوليين أصبحت أربعاً، وقال جل وعلا:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ}[الأعراف:١٣٣]، وهذه خمس مع الأربع الأول تصبح تسعاً، وهي المقصودة بقول الله جل وعلا:{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا}[طه:٥٦].
ومع تلك الآيات المتتابعة المفصلة قال الله:((فَكَذَّبَ وَأَبَى))، وقد ذكرنا عند تفسير قول الله جل وعلا:{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[طه:٤٨]، أن أعظم فائدة أنه لا يخلد في النار إلا من كذب وتولى.
فقول الله هنا:((فَكَذَّبَ وَأَبَى))، هي عين قول الله:{عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[طه:٤٨]، وهي عين قول الله:{لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[الليل:١٥ - ١٦]، فالتولي والإباء والإعراض بمعنى واحد، وكل من يريد أن يتخذ منهجاً في معرفة عقائد الناس يجب عليه أن يستصحب هذا الأصل قبل أن يجازف في تكفير الناس.