تفسير قوله تعالى: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم إلى قوله: إن الله كان غفوراً رحيماً)
قال الله تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:٢٣ - ٢٤].
هنا إشكال، وقد قلت في اللقاء الماضي وفي لقاءات سبقت: إن وجود الإشكال دافع للتعلم والبحث.
يقول ربنا وكلنا يعلم ذلك: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥]، والمنافق كافر، والكافر لا يدخل تحت المشيئة؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:٥٠]، إنما المؤمن هو الذي إذا عصى الله دخل تحت مشيئته، لكن المنافق كافر لا يدخل تحت المشيئة.
هذا الأصل يحدث عندك إشكالاً لأن الله قال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:٢٤]، دائماً في المناقشات العلمية حاول أن تستريح، وخذ الأصل المخيف وأبعده من رأسك، فأنت معك أصل قاطع أن المنافق مخلد في النار، إذاً: هذه الآية لا تتحدث عن الآخرة؛ لأن المنافق في الآخرة مخلد في النار، يعني: من لقي الله يوم القيامة وهو منافق فهو في النار، ولا يوجد شيء اسمه مشيئة هنا؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥]، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨].
إذاً: أول طريقة تأخذها في السياق العلمي هنا أن تقول لمن سألك: كيف يقول الله: (ويعذب المنافقين إن شاء)؟ فتقول: هذه الآية لا تتكلم عن الآخرة، بل تتكلم عن الدنيا، وهذا الجواب يريحك كثيراً قبل أن تبحث في المسألة، فهناك درجتان تقابلهما ثمرتان: الدرجة الأولى: النفاق، ويقابلها العذاب.
الدرجة الثانية: التوبة تقابلها الرحمة.
فالذي حصل هنا: أنه اختار إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، وأخفى إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:٢٤]، فالعذاب ثمرة ودرجته: الاستدامة في النفاق، فيصبح معنى قول الله تعالى: (ويعذب المنافقين إن شاء) أي: يبقيهم على نفاقهم؛ لأن العذاب ثمرة لدرجة هي الاستدامة على النفاق.
فالله هنا ذكر الثمرة ولم يذكر الدرجة، لكننا فهمنا الدرجة من الثمرة، فهمنا، ثم قال جل جلاله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:٢٤] وهنا لم يذكر الله الثمرة، وذكر الدرجة وهي التوبة من النفاق، والرحمة ثمرتها.
فيصبح معنى الآية إجمالاً: أن الصادقين سيجزيهم الله بصدقهم في الدنيا والآخرة، أما المنافقين فربنا يقول: أنا قادر على أن أبقيهم على نفاقهم فيكونوا أهلاً للعذاب، وقادر على أن أتوب عليهم فيتركوا النفاق فيكونون أهلاً للرحمة.
هذا معنى قول الله جل وعلا: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:٢٤]، ولما كان ربنا غلبت رحمته غضبه لين الآية جل شأنه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:٢٤] وفي هذا إقامة حجة عليهم، ودعوتهم إلى التوبة.