للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس أعبدوا ربكم)]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: سبق أن تكلمنا عن فضل سورة البقرة وعظيم شأنها، وانتهينا إلى ذكر الآيتين الدالتين على البعث والنشور، وهما قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:٢١] الآيتين، وتكلمنا إجمالاً عن آية التحدي، وهي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣]، وكان الحديث في آخر اللقاء الماضي مجملاً، وفي هذا اللقاء بإذن الله تعالى سنفصل مبتدئين بقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:٢١]: هذا من أعظم المطالب الشرعية في القرآن؛ لأن عبادة الله جل وعلا هي الغاية من خلق الثقلين، والرب جل وعلا ينادي عباده أجمعين هنا بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ثم استدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، فلما أراد الله أن يثبت أنه وحده المستحق للعبادة ذكر جل وعلا أولاً أنه وحده هو الخالق، فمن أعظم الأدلة على توحيد الألوهية أنه لا خالق غيره.

وقد مر معنا في أمور كثيرة أن الله جل وعلا حكم بين خلقه وقرر بين عباده أن من له الخلق هو الذي يستحق العبادة، وقد استقر عقلاً ونقلاً لكل ذي فطرة أن الله جل وعلا وحده هو الخالق فقال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:١٧]، وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:٣]، وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١].

فذكر الله جل وعلا أن إيمانهم بتوحيد الربوبية ينبغي أن يكون طريقاً إلى توحيد الألوهية، وأن الإيمان بتوحيد الربوبية وحده دون أن يستدل به على توحيد الألوهية وتطبيقه وإفراد الله جل وعلا بالعبادة لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، ولا ينفع صاحبه البتة.

قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:٢١]، ولفظ الألوهية يطلق إذا أريد به الإخبار عن حق الله على عبده، ولفظ الربوبية يطلق إذا أريد به حق العبد على ربه، فالله جل وعلا لما أراد أن يؤوي موسى ويذهب عنه الهم والحزن والخوف قال له: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:١٢] فلما أراد أن يكلفه قال له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:١٤]، فلما أراد الله أن يبين ما أفاءه على خلقه قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:٢١]، فذكر جل وعلا هنا فضله ونعمه ومنته على خلقه: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١]، فذكرهم جل وعلا بأنه وحده هو خالقهم وخالق آبائهم من قبل.

ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:٢٢] تطئونها وتسيرون فيها، وتغدون وتروحون في فجاجها، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:٢٢].

ثم قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:٢٢] والمطر لا ينزل من السماء، وإنما ينزل من السحاب، لكن باعتبار أن السحاب قريب من السماء في العلو -والسماء في اللغة: كل ما علا وارتفع- نسبه إليه.

{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:٢٢] لماذا؟ {رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:٢٢] وهذا من تعاهد الله جل وعلا لخلقه، فلما أثبت الرب جل وعلا أنه وحده الخالق، وأنه وحده الرازق، كان حرياً بهم أن يفقهوا أنه ينبغي أن يكون وحده هو المعبود.

وقال جل وعلا بعد ذلك ناهياً عباده أن يشركوا به: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢]؛ لأن الند لا بد أن يكون فيه وصف للمندود، فبما أنه قد تقرر عقلاً ونقلاً أنه لا خالق إلا هو، ولا رازق إلا هو، ولا محيي ولا مميت إلا هو، فكيف يكون له ند؟! ولهذا قال: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن مفعول تعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه، والمعنى: وأنتم تعلمون أنه لا ند له سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].

وقلنا: إن هاتين الآيتين تضمنتا أدلة البعث والنشور إجمالاً، ومشركو العرب جملة ما أنكروا شيئاً مثل إنكارهم للبعث والنشور كما قال الله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:٧]، وقد قامت الأدلة في القرآن على إثبات البعث والنشور، وهي مجملة في ثلاث: الأمر الأول: الخلق الأول، وعبر عنه هنا بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:٢١] وشرحه وأظهره وفصله في سور أخر: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:١٠٤] {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:١٥].

الأمر الثاني: خلق ما هو أكبر منهم، وأشار إليه هنا بالسماء، وفصله في سورة غافر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧].

الأمر الثالث: النظر في المتشابهات، قال هنا: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:٢٢]، وهذا إحياء للأرض الميتة، وفصله في سور أخرى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:٣٩]، وهذا كله من أجل إقامة الحجة وإظهار المحجة حتى لا يكون للناس عذر، ويكون المهتدي على بينة من أمره.