[تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)]
قال الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩].
شرع الله القصاص حفظاً للدماء، والناس إنما يحتكمون في ثلاثة أمور: في الفروج، والدماء، والأموال، ولا ريب أن المقصود من الآية أن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل يقتل خاف على نفسه فامتنع عن القتل فحفظ نفسه ونفس غيره، قال الله جل وعلا: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:٣٢]، والتاريخ العربي الأدبي والسياسي مليء بقضايا عفو عند القصاص وأخبار من ثبتوا عند الموت، أو قضايا طلب القصاص، منها: أن رجلاً قتل رجلاً وكلاهما من أهل المدينة، فلما كانت ولاية معاوية رضي الله عنه وأرضاه كان ورثة الميت قد بلغوا سن الرشد.
فذهبوا إلى معاوية فأقدم القاتل بين يديه فلما سأله معاوية ليعترف قال: يا أمير المؤمنين! تريد أن أعترف شعراً، أم نثراً؟ قال: بل شعراً، فاعترف شعراً، فلما اعترف شعراً سلمه معاوية إلى ورثة القتيل ليقتلوه على ما جرت به عادة الناس يوم ذاك؛ لأن هذا أمر مفوض للسلطان.
فأخذه أولياء الدم فلما خرجوا به إلى ساحة القصاص جاءت زوجة القاتل المحكوم عليه بالقتل تودعه وودعته أنها لن تتزوج بعده، وكان فيها لمحة من جمال، فقال: والله ما هذا وجه من تريد أن تحرم من الرجال بعدي، فالمسكينة علبت على أمرها آمنت بقوله فذهبت وجدعت أنفها، فلما رآها قال: نعم، الآن اطمأنت نفسي؛ لأن مثلها لا ينظر إليها، وحضر أمير المدينة آنذاك القصاص، فجيء بالسياف الذي هو من الورثة، وجاء الأمير، فرفع القاتل بصره إلى السماء وقال: أذا العرش إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتي إليك فقير وإني وإن قالوا أمير مسلط وحجاب أبواب لهن صرير لأعلم أن الأمر أمرك أن تدن فرب وإن ترحم فأنت غفور ثم نادى صاحبه وقال: كيف تضربني؟ فأخبره قال: ليس هكذا، فإنني ضربت أباك ضربة لم يتحرك منها، وعلمه كيف يقتله يعني: أين يكون حد السيف، فقال من شهدوه: فضرب وهو ثابت لم يتحرك منه عضو ومات، وهذه يذكرها المؤرخون إما في العقد أو في الكامل أو في غيرهما، هذا من المحفوظ القديم والشاهد منها الثبات عند الموت.
وقدم رجل للموت وكان فصيحاً بليغاً فإذا به بين كفن وجلاد وسيف وقبور محفورة فارتج عليه، فقال له الناس: أين فصاحتك؟ قال: من أين الفصاحة؟ قبر محفور، وكفن منشور، وسيف مشهور، من أين تأتي الفصاحة؟! وهو معذور.
وقد مر معنا في دروس عدة أن أحد وجهاء العرب وفصحائها كان من الخارجين على المعتصم، فقدمه المعتصم للموت، فأراد المعتصم أن يعلم أين جنانه من لسانه، وإذا بالنطع والجلاد فقال: يا أمير المؤمنين! قبح الذنب، وكبرت الجريرة، والظن بك أن تعفو ثم قال: أرى الموت بين السيف والنطع كامن يلاحظني من حيث ما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا فقال المعتصم: تركتك لله ثم للصبية وعفا عنه.
أقول: التاريخ العربي والمعاصر مليء بأحداث مثل هذه تبين أن الرجال يتفاوتون في هذه المواقف، موقف أن يرى الموت عياناً، وقتل الميت عياناً يسمى في اللغة: قتل الصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم قتل أحد خصومه صبراً في وادي الصفراء وهو عائد من غزوة بدر، كان يغلظ عليه ويسبه أيام دعوته الأولى فقتله، وينسبون أشعاراً إلى أخته تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في نسبة تلك الأشعار إليها شيء من الضعف في السند.
وجريمة القتل يتعلق بها ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للورثة، وحق للميت، وحق الله يسقط بالتوبة أو بمغفرة من الله بمشيئته؛ لأنه مندرج في قول الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، وحق الورثة يخيرون بين القصاص أو الدية أو العفو، وحق الميت لا سبيل لنا إلى معرفته، وهو يكون يوم القيامة، حتى لو قتل القاتل عمداً واقتص منه لا يسقط حق الميت؛ لأن الميت في قبره لم يستفد شيئاً من القصاص، وإنما استفاد الورثة، وكذلك إن أخذوا الدية، فيبقى حق الميت قائماً فإذا كان يوم القيامة يسوقه إلى ربه ويقول: يا رب سل عبدك هذا فيم قتلني؟ فإن كان الله قد تاب على هذا القاتل سيوجد مخرج لهذا القاتل ويرضي الله المقتول، وهذا لا يمكن أن يقع إلا بين يدي الله وحده، وهو المتكفل أن يرضيك ويرضي خصمك، أما عند الناس لا يمكن أن يقع شيء من هذا أبداً.
والقتل على وجه الإجمال له ثلاثة أحكام: قتل العمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ، وقد نص الله في القرآن على اثنين: العمد، والخطأ، أما شبه العمد فلم يتعرض الله له في القرآن، فلذلك أنكره مالك، ولكن جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة على أن القتل ثلاثة: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وقالوا: العمد: قتله بآلة يغلب على الظن أنها تقتل، وشبه العمد: ضربه بآلة يغلب على الظن أنها لا تقتل فقتله، والخطأ: ألا يتعمد قتله أصلاً.
ومن شبه العمد الذي لم ينص الله عليه في القرآن لكن ألمح الله إليه قتل موسى للغلام القبطي، قال الله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:١٥]، فإن موسى تعمد ضرب القبطي ولم يتعمد قتله، فهذا يسمى قتل شبه عمد، ولا يسمى قتل خطأ.
وينجم عن جريمة القتل ثلاثة أمور بالنسبة للقاتل: أولاً: الإثم، وهذا أعظم الأشياء، وقتل النفس المحرمة من أعظم الذنوب.
ثانياً: أنه يحرم من الميراث إن كان ممن يرث من مقتوله.
ثالثاً: أنه ينفذ فيه القصاص إن طالب به ورثة القتيل أو الدية أو العفو عنه، فهذه الثلاثة تتعلق بالقاتل عمداً، أما قتل شبه العمد فيسقط القصاص لكن يبقى الإثم وتكون الدية مغلظة.
أما قتل الخطأ فلا يوجد إثم، لكن توجد دية مخففة يتحملها عصبة القاتل، ولا يوجد إثم لكن على القاتل الكفارة إما عتق رقبة أو صيام شهرين.
وبعض العلماء في المدينة جاءه رجل لم يكن مشهوراً بالصلاح وذكر أنه قتل أحداً خطأ بسيارة فقال: ما علي؟ والشيخ تفرس في هذا، وعتق رقبة غير موجود، فقال: صم شهرين متتابعين، قال: فقط؟ فاستغلها الشيخ وقال: لا، بزيادة، قال: ما الزيادة؟ قال: أن تفطر في الحرم، فذهب الحرم وكان يسمع فيه قرآن، ودروس؛ فتغير حاله بالكلية، وهذا جواب يقبل إذا كان الشيخ على يقين أنه ممكن أن يبين بطريقته للرجل تعديل الحال لو تبين له أنه عاجز أو تسبب في أنه أفطر، وهذه أمور تربوية يلجأ إليها أحياناً.
والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء، وقول الله جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:١٧٨]، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:١٧٩]، كل ذلك حتى يسود في المجتمع الأمن، وتعم فيه الحياة، وأن يأنف الناس من أن يقتل بعضهم بعضاً؛ لأن في إبقاء حياتهم نفع لأنفسهم وطاعة لربهم.
هذا ما تيسر إعداده، وأعان الله على قوله.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق، ونعتذر إليكم عن التقصير، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.