للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة إنه كان حليماً غفوراً)

ثم عاد الله جل وعلا لإبطال دعواهم بتعدد الآية، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:٤٢ - ٤٤]، تصور الآيات جملة على النحو التالي: هؤلاء القرشيون يقولون بتعدد الآلهة، ثم إنهم في تعدد الآلهة يزعمون أنهم عندما يعبدون تلك الآلهة التي اتخذوها إنما هي شفعاء لهم عند الله تعالى، هذا زعمهم، فالله جل وعلا الآن أراد أن يرد عليهم بطلان قولهم بوجود تعدد الآلهة، فقال ربنا قل -أي: يا محمد! صلى الله عليه وسلم- فهي تدل على زيادة اختصاص، وفيها تربية للمؤمن على فقه الأولويات: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٢]، بداية: لو: حرف امتناع لامتناع؛ أي: لا توجد آلهة حتى تجد سبيلاً إلى ذي العرش، فالأمر برمته باطل إلا في ألسنتكم، لكن الآن هنا تصور فرضي لكيفية رد الله عليهم، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} [الإسراء:٤٢]، فالأمر برمته غير موجود إلا في قلوب هؤلاء الكفرة، فيقول الله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٢]، ابتغاء السبيل المقصود منه: طلب السعي إلى شيء ما، والآية هنا تحتمل معنيين: الأول: ربنا يقول لهم: لو فرضنا جدلاً بحسب منطقكم الكافر أن هناك آلهة معي، وهنا نحمل الآن على الرأي الأول: أن كلمة: (إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) أي: سبيل رغبة وخضوع، أنتم لماذا تعبدون هذه الآلهة، قالوا: نعبدها حتى تكون شفعاء بيننا وبين الله، فالله جل وعلا يقول: إذا كانت هذه الآلهة بزعمكم تخضع لي وتتشفع لكم عندي فهذا يمنع بتاتاً أن تسمى آلهة؛ لأن الإله لا يكون خاضعاً، نجيب مثال من واقع الناس اليوم: أنت تعرف رجلاً يعمل في الديوان الملكي، فأعطيته أوراقاً ليعرضها على الملك، فهذا الموظف في الديوان الملكي هو وسيط لك عند الملك، حتى يعرض موضوعك على الملك، فلا بد هو نفسه أن يكون خاضعاً للملك، ويتشفع لك عنده بذل وتواضع حتى يقبل الملك شفاعته، إذاً: هذا الشفيع ليس بملك؛ لأن الملوك لا تخضع بعضها لبعض، إذاً: بطل ما زعموه وادعوه، أنتم تقولون: إن هذه المعلقة حول الكعبة شفعاء بينكم وبين الله، وتقولون: إنها آلهة: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:٥٨]، على عيسى بن مريم، فكيف تسمى آلهة وهي تخضع لغيرها؟ الإله لا يخضع لأحد، فبطلت دعواكم بأنها آلهة، هذا على القول أن معنى قوله: {لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٢]، أي: سبيل خضوع وتذلل ومحبة.

القول الثاني: (لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا)، ليس سبيل تذلل وخضوع، بل على العكس، سبيل مغالبة ومنازعة، أي: لو كانت هذه الآلهة آلهة كما تزعمون أنتم فالآلهة لها قدرة وسلطان، فستنازع الله جل وعلا في سلطانه، وأي شيء حوله تنازع ينجم عنه خلل، أي بلد فيها أربعة رؤساء أو خمسة يحدث خلل في نظامها؛ لأن كل رئيس يريد أن يمضي كلامه، تسمعون الآن أمراء الحرب في الصومال، لا يمكن لهم أن يصيروا أمراء على بلد واحد، لا بد أن يحصل نزاع، فلا بد أن يكون الحاكم واحداً حتى يستقر الأمر، وأنتم ترون بأعينكم أن الكون منتظم، شمسه وقمره، وليله ونهاره، ولا يوجد فيه أي خلل، ولا أي فساد، فدل عقلاً على أن الإله واحد، وهذه الآية رأيان، وكل القرآن يشهد لهذا ويشهد لهذا، أما القول الأول: على الخضوع والتذلل فيشهد عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:٥٧] في نفس السورة.

والقول الثاني -وهو الأرجح، والعلم عند الله- يشهد له قول الله جل وعلا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢]، وقول الله جل وعلا: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:٩١].

فبكلا الطريقين أو الرأيين الناجمين عن فهم الآية تبطل دعوى الكفار القرشيين أن مع الله جل وعلا آلهة، قال الله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:٤٢]، وقول الله جل وعلا: {كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:٤٢]، هذه زيادة المقصود منها: أن هذا أمر لا يقوله عاقل، لكنهم تجرءوا عليه وقالوه: {إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٢]، من حيث الصناعة النحوية: إذاً: أتي بها لتأكيد الجواب، وهو جواب لولا الممتنع تحقيقه؛ لأن (لولا) حرف امتناع لامتناع.

ثم أنشأ الله جملة تنزه فيها عما يزعمه هؤلاء الكفرة، قال الله جل وعلا: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:٤٣].

قال بعض أهل العلم: كبيراً هنا بمعنى: الكامل، والمقصود: أن الله جل وعلا ينزه ذاته العلية عما زعمه هؤلاء الكفار، وما تبنوه من معتقد فاسد، وأن الله جل وعلا قد تعالى أن يكون له شريك، ثم ذكر الله آيات تدل على وحدانيته فقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:٤٤]، يدخل فيه الجمادات والحيوانات والنباتات {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:٤٤]، ولما كان هذا التسبيح من لدن كل الأشياء دقيقاً لا يصل إليه أحد، قال ربنا: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ} [الإسراء:٤٤]، ولم يقل: ولكن لا تعلمون، وإنما عبر بلفظ (تفقهون)؛ لأنها مسألة دقيقة، {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤]، وقد مر معنا مراراً: (أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة دعا بنيه، فقال: إني أوصيكم باثنتين، بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن كحلقة مفرغة لقصمتهن لا إله إلا الله، وبسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق)، والحديث عند أبي داود بسند صحيح.

(فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق)، وهذا محل الشاهد؛ فالله جل وعلا يسبح له الحوت في بحره، والطير في وكره، بل وإن من شيء إلا يسبح بحمده.

قال ربنا: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:٤٤]، لماذا اختار الله هذين الاسمين الجليلين ليختم بهما هذه الآية؟ قلنا في اللقاء الأول حول سورة الإسراء: إن الله قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:١]، قلنا: اختار الله كلمة السميع -استذكاراً لما سلف- لأنه سمع نبيه وهو عائد من الطائف، واختار البصير لأنه كان في الليل.

وهنا قال الله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:٤٤]؛ لأن مقالتكم هذه -أيها المشركون- تستوجب العذاب العاجل، لكن حلم الله عليكم أخر عنكم العذاب.

أما قوله: (غفوراً) فهذا فتح باب لهم أن يئوبوا ويتوبوا، أي: أن المقالة التي تزعمونها، والمعتقد الذي تبنيتموه تستحقون عليه العقاب العاجل، لكن حلم الله أخر عنكم العذاب، والأمر عند الله أعظم من ذلك، فإن باب التوبة مفتوح؛ ولهذا قال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:٤٤]، وهذه ظاهرة جلية لمن أراد أن يتدبر القرآن.