تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة سجداً)
بعد هذا كله ماذا حصل؟ قال الله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠]، معلوم أن السحرة ما كانوا واحداً أو اثنين بل كانوا كثيرين، فمنهم من قال: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:١٢١]، ومنهم من قال: (آمنا برب موسى وهارون)، ومنهم من قال: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠]؛ لأنهم لم يعتقدوا أبداً أنهم سيؤمنون حتى نقول: لقد اتفقوا على كلمة واحدة، فاختلف التعبير، وبكل تعبير ورد القرآن، فذكر الله جل وعلا الأساليب التي عبر عنها السحرة.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما نقل عنه: (كانوا أول النهار كفرة سحرة، وأصبحوا آخر النهار شهداء بررة)، ولهذا لا ييأس أحد من هداية أحد، ولا يدري أحد كيف تكون الخواتيم، فقد خرجوا من بيوتهم وهم يمنون أنفسهم بالعطايا الدنيوية، ويريدون أن يحاربوا الله ورسوله، ثم لا يلبثون أن يؤمنوا ويخروا ساجدين، هذا السجود -كما سيأتي- أورثهم عزة ومنعة؛ لما مر معنا أن الإنسان لا يمكن أن يكون في وضع هو ذليل فيه أعظم من ذلة السجود، وكلما ذللت نفسك بين يدي الله كنت منه قريباً، فلما ذلوا أنفسهم وسجدوا أورثهم الله بذلك السجود الذي سجدوه له عزة وإباء ومنعة، فلما هددهم فرعون لم يبالوا بتهديده؛ بل قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢].
أربعون عاماً وفرعون يرسخ فيهم أنه رب، وأنه إله، وأنه يقتل ويبطش، كل هذا محي بسجدة ربما لم تتجاوز دقائق معدودات؛ لأن الموروث الذي أخذوه من فرعون هباء منثور وإن كان له حقيقة، أما ما أخذوه من عطاء إيماني، ونور قلبي من الله فإنه يثبت، يقول الله جل وعلا: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وقال: (أما إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي: جدير وحقيق- أن يستجاب لكم).
وهذا اليوم كان يوم زينة لهم، فأبدلهم الله جل وعلا بأن نجاهم في يوم عاشوراء الذي صامه موسى وبنو إسرائيل من بعده، ثم صامه نبينا صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة ما ذكرناه: أن الله جل وعلا أخبر في هذه الآيات التي بين أيدينا أنه أظهر الآيات، وأقام الحجج والبراهين على فرعون، لكن فرعون استكبر آية بعد آية وهو يردها، ثم وقع منه -حفاظاً منه على الوضع الاجتماعي القائم عنده- أن يخوف الناس، وتواعد مع موسى على يوم هو الذي عرضه، فأجابه موسى، ثم كان ما كان من عرض الأمرين، وقلنا: إن من الخير لك ألا تبدأ أحداً بنقاش حتى لا تشعر بالغلبة، وإنما اطلب من غيرك أن يعرض ما عنده حتى لا يكون ما عندك القصد به العلو على الناس، فنصر الله جل وعلا كليمه وأخاه، فأثر ذلك فيمن يعرف الحق وهم السحرة، ولا يعلم أن أحداً من القبطيين الذين شهدوا ذلك النزاع آمن؛ لأنهم خرجوا من بيوتهم وليس في نيتهم الإيمان، ولم يقع في قلوبهم البحث عن الحق، فقد قالوا: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:٤٠].
فكانت منة الله على السحرة دون غيرهم من الناس، وقد ذكرنا أن ابن عباس قال: كانوا في أول النهار كفرة سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة، وقلنا: إن في هذا بياناً لفضل الله ورحمته بالخلق، وأنه لا يدرى كيف تكون الخواتيم، ختم الله لنا ولكم بخير.
هذه جملة ما تحدثت عنه هذه الآيات في سورة طه، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والمزيد من العون والرعاية، وسنكمل إن شاء الله في لقاء قادم خبر هذا النبي الكريم مع فرعون.
نسأل الله التوفيق، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، هذا ما تهيأ إيراده، ويسر الله جل وعلا على قوله، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين كرة أخرى.