تفسير قوله تعالى: (وتحسبهم أيقاظاًَ وهم رقود)
قال تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ) أي: تظنهم.
{أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:١٨]، أفضل ما يحمل عليه المعنى: أن الله أنزل عليهم هيبة، وأن أعينهم كانت مفتوحة، ولذلك من رآهم فإنه يظنهم أيقاظاً؛ لأنه لا يظن بشخص أنه يقظ إلا إذا كان مفتوح العينين، والعرب تزعم في كلامها أن الذئب ينام بإحدى عينيه فقط ويبقي الأخرى مفتوحة.
تقول العرب في كلامها عن الذئب: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم وقد مر معكم أنك لو دخلت مجمعاً للحيوانات أو ما يسمى حديقة في عرف الناس هذه الأيام، ومررت على الحيوانات، فإنك تجد الأسد رابضاً؛ لأن الله سلط عليه الحمى، فلا يوجد في الحيوانات من هو شديد الحمى مثل الأسد، هناك مثل عند العامة يقولون: خَلَقَ الشوكة وصوَّبَ رأسها، ليبان أنها شوكة فتميزت بذلك والله يقسم كل شيء، ولا يعطي أحداً الكمال.
والذئب إذا رأيته قبل أن يراك تغلبه، وإذا رآك قبل أن تراه قلما تغلبه، لكن إذا رأيته يصيبه نوع من الهلع في نفسه، ولهذا من شدة خوفه فإنه ينام بإحدى مقلتيه ويبقي الأخرى مفتوحة.
الذي يعنينا أنك لو دخلت أي حديقة فإنك لا تجد الذئب رابضاً أو مقعياً وإنما تجده يفر ويتحرك حتى ولو كان عجوزاً في مترين أو في متر؛ إلا أنه سريع الحركة لا يثبت؛ لأنه يبقى خائفاً حتى لا يراه أحد قبل أن يراه هو، وهذه أشياء تفيد الإنسان في فهم أمور عديدة في الحياة، وليس شرطاً أن تفيدك فيما أنت فيه الآن.
ثم قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُهُمْ} [الكهف:١٨] فأسند التقليب إلى ذاته العلية، وفيه فائدتان: الأولى: تشريف لهم، والثانية: بيان لطف الله جل وعلا لهم.
{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:١٨]، قال العلماء في علة ذلك: حتى لا تأكل الأرضة أجسادهم، ومعلوم أن الله قادر على أن يحفظ أجسادهم دون تقليب، لكن المقصود إجراء سنن الله جل وعلا في الكون، وأصله أن الإنسان إذا نام على جنب واحد أو على حال واحدة أن الأرضة تأكل جسده.
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:١٨] كلبهم مضاف إليهم، أي أنه لهم جملة أو لأحدهم أو لبعض منهم، كل ذلك واقع ومحتمل.
والكلب حيوان معروف، وقد أباح الله جل وعلا صيده إذا كان معلَّماً، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:٤] لما ذكر الله جل وعلا ما أباحه من الأطعمة، والعرب تضرب به المثل في الوفاء، وكانت تتخذه العرب للحراسة، والكلام فيه يطول.
لكن المقصود من هذا هنا أن الله ذكر الكلب هنا ليبين جل وعلا أن من صحب الأخيار يلحق بهم، ويؤيده ما في الصحيح من حديث أنس: (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله.
فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت).
قال أنس رضي الله عنه: والله! ما فرحنا بعد إسلامنا بشيء أعظم من فرحنا بهذا الحديث، فكان أنس يقول: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر.
قال بعض الرواة لهذا الحديث: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر وأنس، ونحن نقول: نحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر والصحابة كلهم وكل مؤمن تبع النبي وأصحابه بإحسان إلى يوم الدين.
قال الله جل وعلا: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:١٨]، الوصيد: مقدمة الكهف، وكلمة باسط اسم وأراد الله بهذه الجملة الإسمية: الاستمرار؛ لأن الاسم يلحق به الاستمرار أكثر مما يلحق بالفعل، فقوله جل وعلا: (باسط) غير لو قال: يبسط؛ لأنها قابلة للتحريك لكن يظهر أن النوم الذي أصاب أصحاب الكهف أصاب كذلك الكلب.
قال تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} [الكهف:١٨] أيها المخاطب! {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:١٨]، وهذا نوع من الحماية لهم، لكن الإشكال الوارد: أن الإنسان يرتعب أولاً ثم يفر، والله في هذه الآية قدم الفرار على الرعب، ولعله يجاب عن هذا بأن يقال: إن الرائي لهم يصيبه رعب فمن هول ذلك الرعب وقبل أن يتملكه، يسارع بالفرار.