للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات ولا جدال في الحج)]

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧].

وقبل أن نشرع في تسير هذه الآية نبين أن الآية التي قبلها تقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:١٨٩] فجاء الجواب القرآني: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:١٨٩]، فأشعر قول الله: إن الأهلة مواقيت للناس والحج، على أن أشهر الحج طوال العام؛ لأن كلمة: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:١٨٩] عائدة على الأهلة، والأهلة طوال العام، فأشعرت أن جميع أشهر السنة أشهر حج، وهذا غير صحيح، فهذا الإشعار الذي يظهر لك بادي الرأي أنه عام هذه الآية أشبه بالموضحة له، وبعض أهل العلم يراها مخصصة لذلك التعميم الذي قال الله فيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:١٨٩]، فهنا لم يحدد أن أشهر الحج محددة، لكنه هنا قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:١٩٧] ومعنى الآية: وقت الحج أشهر معلومات، ومن المهم: أن تفقه مراد الله: أن الله جل وعلا هنا لم يذكر لنا ما هي أشهر الحج، واكتفى بقوله جل شأنه: (أشهر معلومات) جمع معلومة، أي: معروفة لا يكاد يجهلها أحد، في حين أن الله جل وعلا لما ذكر الصيام قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] ثم قال بعدها بآيات: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:١٨٥] فلماذا عين؟ هنا لم يقل: شهر شوال، شهر ذي القعدة، شهر ذي الحجة؛ لأن رمضان لم يكن معروفاً آنذاك بأنه شهر صيام، فالعرب لا تعرف صيام رمضان في الجاهلية، لكن العرب في الجاهلية تعرف الحج، فقد كانت تحج وتعتمر، لكن كانت لهم شركيات مع أصل حجهم الذي أخذوه إرثاً عن إبراهيم عليه السلام، فقول الله جل وعلا: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:١٩٧] يحيل إلى شيء معروف في الذهن، والتعبير بقوله جل وعلا: {أَشْهُرٌ} [البقرة:١٩٧] هذا جمع قلة، والعرب إذا جمعت جمع قلة من ثلاث إلى تسع تأتي على وزن أفعل، تقول: نجم، وتجمعها جمع قلة فتقول: أنجم، وشهر جمعها جمع قلة: أشهر، أما نجم فجمعها جمع كثرة: نجوم، قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥].

والشهر جمعها جمع كثرة: شهور، قال ربنا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة:٣٦] فلما قال: اثنا عشر شهراً قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} [التوبة:٣٦] ولم يقل: إن عدة الأشهر، وهذا الكلام يسمى تحت باب الصناعة الصرفية: الصناعة الصرفية؛ لأننا قلنا: إن الكلام في الكلمة نفسها يسمى: صناعة صرفية، أما الكلام في الكلمة وسط الجملة فيسمى: صناعة نحوية، أما الكلام عن أحرف الكلمة وأوزانها في ذاتها فيسمى: صرفية، قال ربنا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:١٩٧] ومع ذلك اختلف فقهاء الملة رحمهم الله في تحديد الأشهر المعلومات على أقوال ثلاثة: القول الأول يقول: إن أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، ومن الأول إلى التاسع من ذي الحجة، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، وحجة هؤلاء ظاهرة، فهم يقولون: إن الحج يفوت بفوات يوم عرفة بالاتفاق بين المسلمين، فالمسلم إذا فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، قالوا: فلا معنى إذاً أن نقول: إن من يوم عشرة إلى يوم ثلاثين من أشهر الحج، وصاحبها إن لم يقف بعرفة فاته الحج، فجعلوا أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وإلى التاسع من ذي الحجة.

القول الثاني: إن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وإلى العاشر من ذي الحجة، وحجة هؤلاء: أن الله سمى العاشر من ذي الحجة بيوم الحج الأكبر؛ لأن فيه من شعائر الحج ما ليس في غيره، ففي العاشر من ذي الحجة: رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، وهذه الأربع لا تجتمع إلى في عاشر ذي الحجة، فقال أصحاب هذا القول: ليس معقولاً أن نقول: إن عاشر ذي الحجة ليس من أشهر الحج، وهذه الأعمال كلها فيه.

القول الثالث والأخير يقول: بل أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بكامله، وحجتهم: أن أقل الحج في كلمة: (أشهر) ثلاثة.

ونلحظ من هذه الاختلافات: أنهم متفقون على أن شوال، وذو القعدة من أشهر الحج، فلو أن إنساناً أحرم بالعمرة في رمضان، ولم يرجع إلى بلده، ثم بدا له أن يحج هل نلزمه بالتمتع أم لا؟ لا يلزم؛ لأن عمرته لم تكن في أشهر الحج، لكنه لو اعتمر في يوم العيد وبقي في مكة ثم أهل بالحج فهو متمتع، ما لم يرجع إلى دويرة أهله، أو إلى إحرامه الحقيقي؛ لأن دويرة أهله المقصود بها هنا: إحرامه الحقيقي، وليست على إطلاقها، نأتي بمثال: رجل من أهل مصر يسكن الرياض أو يسكن المدينة، ثم إنه أحرم في شهر شوال بالعمرة، فاعتمر ورجع إلى مقر عمله في الرياض أو في المدينة، فهذا يعتبر قد رجع إلى دويرة أهله؛ لأن عمله وميقاته الأصلي هو الرياض أو المدينة، ولا علاقة لنا ببلده الأصلي وهو مصر مثلاً، على هذا قال الله جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:١٩٧]، الحج في اللغة هو: القصد، لكنه هنا: قصد مكان من أجل التعظيم، ولا يسمى حجاً إلا إذا كان قصد ذلك المكان للتعظيم، والمكان هنا: هو بيت الله الكعبة، قال الله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩]، وهذا ظاهر.