للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تابع الحديث على آيات العتاب]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد: فقد تحدثنا عن بعض آيات العتاب، التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم، والآن نواصل الحديث كذلك عما يسمى بآيات العتاب، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:٧٣ - ٧٥].

نقول بداية: مر معنا أنه لا بد لنا من استصحاب السيرة حتى يفهم القرآن جيداً, فلا افتكاك بين الكتاب والسنة, والقرآن إنما كان يصور صراعاً قائماً بين الحق والباطل.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل في قلبه شفقة ورحمة على أمته وخصومه من القرشيين، وهؤلاء بدورهم كانوا يحملون في قلوبهم أنفة ومحاولة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما هو عليه من الحق, وهذه أصل المسألة.

الذي ينبغي أن يفهم ويعض عليه بالنواجذ ولا ينطلق إلى غيره ولا يقبل سواه: أن الآيات إنما تتحدث عن تأييد الله وحفظه ونصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحدث أبداً أن هناك ميلاً منه صلى الله عليه وسلم ولو مثقال ذرة أو أقل إلى قومه وما كانوا يعبدون, هذا أمر يجب حسمه قبل أن نشرع في إثبات هذه القضية, وحتى لو عجزت أن تجد الدليل أو البرهان أو الآلة التي تفهم بها الآية, فإنك لن تعجز أن يستقر في قلبك أن هذه الآيات إنما هي بيان لتأييد الله ونصرته وتوفيقه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحدث إطلاقاً عن شيء منه صلى الله عليه وسلم أنه كان يميل إلى قومه، هذا أمر لا نزاع فيه ولا خلاف، ولا يمكن دفعه بأي شبهة.

قال الله: {وَإِنْ كَادُوا} [الإسراء:٧٣] أي: قاربوا، {لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:٧٣] أي: يصرفونك، {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:٧٣] أي: القرآن، {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:٧٣]، وهذا القرآن ذم آلهتهم وعاب أصنامهم, وهم يريدون قرآناً ليس فيه ذماً وليس فيه قدحاً في عبادتهم وآلهتهم وأصنامهم، {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:٧٣] أي: أنه لو وقع هذا ولن يقع، فلن يجدوا خليلاً مثلك، فأنت رجل كامل الصفات البشرية، فإذا ظفروا بك فقد ظفروا بشيء عظيم، ولهذا لن يفرطوا فيك، قال: {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:٧٣].

{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:٧٤] ولولا: حرف امتناع لوجود، والموجود هنا: التثبيت؛ ولذلك امتنع الميل والركون لوجود التثبيت، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:٧٤].

{إِذًا} [الإسراء:٧٥] والتنوين في (إذاً) عوض عن جملة, أي: لو وقع منك هذا {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:٧٥] أي: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مضاعفاً؛ لأن مقامك ليس كمقام غيرك.

ولذا خاطب الله نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء، وأن الأمر يضاعف عليهن لقرابتهن من النبي صلى الله عليه وسلم واندراجهن في بيته, فكيف به هو صلوات الله وسلامه عليه؟! {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:٧٥]، وهذا يبين عظيم سلطان الله جل وعلا وقهره لعباده.

هذا من حيث الإجمال، أما من حيث المفردات: فيقول تعالى: {لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:٧٣] بمعنى: يصرفوك.

{عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:٧٣] أي: القرآن.

{لِتَفْتَرِيَ} [الإسراء:٧٣] أي: لتختلق وتبتدع قولاً من عندك.

{وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:٧٣]، والخليل مرتبة عالية في الصداقة والقربى والزلفى.

{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:٧٤] بما قذفناه في قلبك من الهدى والنور والسكينة, والإيمان الحق بالله وآياته.

{لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ} [الإسراء:٧٤] أي: تميل.

{إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:٧٤ - ٧٥]، نضرب بمثال على هذه الآية بعيداً عن المنحى اللغوي لها: الآن لو أن إنساناً في شاطئ البحر أوشك على الغرق, ثم أخذ يناديك ويستغيث بك، فملأ قلبك رحمة لأن تنقذه، فأعطيته حبلاً أو رميت له ما يعينه على أن ينجو من الغرق، ثم إنك من شدة عاطفتك وحرصك على أن ينجو كدت تغرق معه، وأنت لا تريد أن تهلك نفسك، لكنك تريد أن تنقذه، فلما رآك الرائي من غيرك وعاتبك وخشي عليك وخاف، قال لك: كدت أن تقتل نفسك، وأنت لم ترد قتل نفسك، بل حملتك شفقتك وعاطفتك على ما صنعت.

وبعض الفضلاء يقول: إن هذا المعنى في هذا المثال هو نفسه هذه القضية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمل قط مثقال ذرة ولا حبة خردل إلى ما هم فيه, لكنه يقع منه ما ظاهره الميل إليهم، بسبب الشفقة والرحمة بهم، وحرصه على هداهم, وإلا فليس في قلبه صلى الله عليه وسلم إلا التوحيد الخالص، والنبذ التام لما كان عليه القرشيون وقومه من عبادة الأوثان، والعكوف على الأصنام.

وقول هذا مقبول من حيث الجملة, لكننا قلنا: إن الآلة الأولى إلى فهم القرآن هي اللغة، وقد بينا معنى لولا، وقلنا: إنها حرف امتناع لوجود، وأثبتنا وجود التثبيت, وعلى هذا انتفى وامتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ركن إلى قومه.