نقول: الله جل وعلا أخبر موسى أن السامري أضل قومه فعبدوا العجل، وهذا الخبر جاء من الله، فرجع موسى إلى قومه، فوصف حالته بأمرين:((غَضْبَانَ أَسِفًا))، والغضب: حدة تكون في النفس غير مقرونة بخوف إذا رأى الإنسان شيئاً يسوءه، (أسفاً) بمعنى: أن هذه الحدة لما حصل لقومه مقرونة بالحزن لما وصلوا إليه، ولهذا عبر القرآن بكلتي الحالتين: غضبان في ذات الله، وأسفاً على قومه، فهو مغضب في نفس الوقت، حزيناً جداً للطريق الذي سلكه قومه.
موسى عليه الصلاة والسلام جعل أخاه هارون بعده في بني إسرائيل وذهب إلى ميقات الله، وقد مر معنا أنه سأله ربه:{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}[طه:٨٣]، وفي هذه الفترة جاء السامري، وقد ذكرنا أنه من مبهمات القرآن، وبمعنى: أنه لم يأت تفصيل دقيق عن سيرته، فظاهر الأمر أنه رجل من بني إسرائيل، هذا السامري أبصر جبريل على الأظهر، ولذلك قال:{بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}[طه:٩٦]، فسرت (الرسول) بجبريل، فقد رأى جبريل وهو على فرس يقال له حيزون، يقال: إن جبريل عندما كان يجري على هذه الفرس كان لا يطأ على مكان إلا يحيا وينبت، ففطن السامري لهذا الأمر الذي أعطاه الله جل وعلا لفرس جبريل، فقبض قبضة، ولا تسمى قبضة إلا إذا كانت باليد، أي: أنها مقدور عليها، واحتفظ بها لنفسه، ثم كأنه وضعها في مكان آمن، حتى انتهز فرصة غياب موسى في جبل الطور، ووضع أخاه هارون خليفة عليهم.
في هذه الفترة جاء السامري لبني إسرائيل ودخل عليهم من باب الخطيئة، فأخبرهم أنهم حملوا أوزاراً وآثاماً سببها أنهم لم يردوا زينة القوم، والقوم هم الأقباط سكان مصر الأصليون، وقد كان بنو إسرائيل يعيشون على مقربة من الأقباط في مصر، فكانوا خدماً لهم وجيراناً، ومعلوم أنه يحدث بين الخدم والجيران نوع من العلاقات، فبعض بني إسرائيل كان يعطي ذهبه وزينته لبني إسرائيل، إما ليحتفظ بها، أو أنه بعثه في مهمة أو كان خادماً عنده، المهم أنه تحصل بنو إسرائيل على مجموعة من الحلي التي ليست ملكاً لهم في الأصل، فلما تجاوزوا البحر أتاهم السامري من هذا الباب، وقال لهم: إن هذه الزينة التي تملكونها وتحملونها إثم، ولهذا قالوا:{حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}[طه:٨٧]، والأوزار تطلق على الذنوب والمعاصي، فلا بد أن يتخلصوا منها، فسألوه: كيف نتخلص منها؟ فأتى بهم إلى قاع بأرض، وأمرهم أن يلقوا ما جمعوه من حلي فيها، فتكون من هذه الحلي ذهب كثير، فجاء السامري بالقبضة التي قبضها والتي فيها نوع من الحياة نسبياً، ووضعها مع هذه الذهب مع قدرته على صناعة التماثيل فأخرج لهم العجل، والعجل صغار البقر كما هو معلوم، وصوته يسمى: خوار.
لكن قال بعض أهل العلم: إن هذا العجل كان فيه روح، وهذا بعيد جداً؛ لأنه لا خالق إلا الله، ومن قواعد العلم: أن الإنسان يأخذ الأمر اليقيني ثم يصدم به الأمر المتشابه، فالمتشابه لا يقبل أن يقف أمام الشيء اليقيني المحكم، فمما نستصحبه هنا محكماً: أن الله جل وعلا لا خالق غيره، ومحال أن يقدر السامري بأي قدرة على أن يخلق شيئاً، وقول الله جل وعلا على لسان عيسى:{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}[آل عمران:٤٩]، قالوا: إنه مجرد أن يطير إلا ويقع حتى يميز خلق الله عن خلق عيسى.
فالمقصود: أن السامري بما أعطاه الله من قدرة في صناعة التماثيل، والذهب معدن أصيل كما هو معلوم مع تلك القبضة ومزج بعضها في بعض، ولا ندري كيفية العجل على هيئته التفصيلية، لكن نقول كما قال الله:(جسداً) وهذا يدل على أنه لا روح فيه؛ لأنه مر معنا أن أسلوب القرآن إذا تكلم عن اللحم والدم والشيء المجسم إذا كان مقروناً بالروح يعبر عنه بأنه جسم، كما قال تعالى عن طالوت:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة:٢٤٧]، وقال الله عن المنافقين:{تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}[المنافقون:٤]، وإذا عبر القرآن بالجسد فإنه يتكلم عمن لا روح فيهم.
والمقصود: أن هذا العجل أخرجه لهم السامري، فلما أخرجه لهم كما قال الله جل وعلا:{فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}[طه:٨٨]، فبين لهم أن موسى عليه السلام -وهذا بزعم السامري - لم يعرف ربه نسي ربه، فذهب يبحث عنه في مكان آخر، أو قال لهم: إن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم، وكلا الأمرين كفر، وفتن بنو إسرائيل في العجل فأخذوا يطوفون حوله ويترقصون.
ومن هنا أخذ بعض علماء أهل السنة أن ما يصنعه بعض المتصوفة من الطواف والرقص لا أصل له؛ بل إنه مأخوذ عن العبادة الكفرية لبني إسرائيل، ولم ينقل فيه أثر صحيح صريح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكفى بعمل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه عبادة.