للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم)]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد.

فهذا لقاء متجدد ضمن تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩].

واليوم نزدلف إلى قول الرب جل شأنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:١٨٠ - ١٨٢].

هذه الآيات الثلاث تلوناها جميعاً لارتباط أحكامها ببعضها، وهذه الآية صدرها مما أشكل على كثير من المفسرين، واختلفت فيه كلمة الفقهاء، وربما وصل إليك بعض علم عن هذا كله، وسنشرع في بيان الآية فقهياً ولغوياً، واسترشادياً من حيث الجملة.

أوجب الله جل وعلا الوصية هنا بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:١٨٠]، والوصية: هي القول المبين لما يراد العمل به، وهي هنا مخصوصة بما بعد الموت؛ فمعنى قولنا: أوصى فلان، أي: ذكر قولاً يبين ما يطلب من غيره أن يفعله بعد موته، هذا معنى الوصية.

والتعبير القرآني باللفظ (كتب) يدل على الفرض، والذين طلب الله أن نوصي لهم بنص القرآن هنا هما الوالدان والأقربون.

والإشكال أن الله جل وعلا ذكر حق الوالدين وحق الأقربين في آيات المواريث، فمن هنا جاء الإشكال عند أهل العلم، وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ سلك الشافعي وكثير من العلماء المسلك التالي في فهم الآية: فقالوا: إن الله جل وعلا كتب وفرض الوصية هنا للوالدين والأقربين بآية الوصية، وفرض حقا للوالدين والأقربين في آية المواريث، قالوا: فنحن بين آيتين إما أن نجمع بينهما فنعطي الوالدين ما فرضه الله لهما في آية المواريث، ويحق لنا أن نوصي لهما، بل يجب علينا أن نوصي لهما، أو أن ننسخ المتقدم بالمتأخر، فلما احترنا بينهما عمدنا إلى مرجح خارج عن محل النزاع؛ فوجدنا في السنة حديثاً اتفق الناس على نقله نقلاً متواتراً وإن كان في أصله حديث آحاد، لكنه لا اختلاف حول متنه، فجعلناه هو المرجح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) فحكمنا به على آية الوصية أنها منسوخة، وهذا القول اختاره جمع من العلماء، ومن أشهرهم من المفسرين ابن كثير رحمه الله.

وسلك آخرون مسلكاً آخر فقالوا: لا نقول: إن آية الوصية منسوخة، ولكن نقول: إن آية الميراث مخصصة لآية الوصية، فنأتي لمن فرض الله لهم في آية المواريث فنخرجهم من الوصية، ونبقي الوصية للقرابة، ولمن لم تخرجهم الوصية، ولمن لم تخرجهم آية المواريث، وآية المواريث لا يمكن أن تخرج الوالدين إلا في حالة واحدة: إذا كان كلاهما أو أحدهما كافراً، فإذا كان أحدهما كافراً أو كلاهما استطعنا أن نجمع ما بين إعمال آية المواريث وإعمال آية الوصية؛ فجعلوها مخصصة لآية الوصية.

والقاسمي -رحمه الله- صاحب كتاب (محاسن التأويل)، نقل ما ذكره العلماء كما صنع غيره من المفسرين، ثم كتب في كتيب عنده خاص أسماه (الموارد والسوانح العلمية)، وهو ما يطرأ عليه بعد التأليف، فكتب رأياً آخر لم يدونه في محاسن التأويل، وقد اطلع عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله تعالى عليه وأدخله في متن التفسير عندما أخرج تفسير القاسمي (محاسن التأويل) للناس، وهذا الرأي يقول فيه: إن الوصية هنا للشيء المعهود، ولا تنازع ما بين آية المواريث وآية الوصية، فليست الوصية هنا بمعنى أن الله يلزمنا أن نكتب لفلان كذا، وفلان كذا، وإنما معنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:١٨٠] أي: فليتق الله وليعمل بما أوصى الله به في آية المواريث، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يأتي بطرائق أو سبل يحيد بها عن التقسيم الشرعي الذي نص الله عليه في آية المواريث.

وقال القاسمي رحمه الله -في معرض ما قال-: ولا أدري إن كان أحد قبلي ذكر هذا أم لم يذكره.

وأنا على اطلاعي لم أقف على أحد قاله قبل القاسمي، وقد يكون -كما قال القاسمي- قد قاله غيره، والذي يعنينا أن هذه تخريجات العلماء من حيث الجملة.

وقال آخرون -وهو في ظني رأي بعيد جداً-: يعمل بكلتا الآيتين، وأن كلتيهما محكمة، فجمعوا ما بين آية المواريث وآية الوصية، وهذا وإن اختاره قلة لكنه موجود، وإن كنت أراه بعيداً في الترجيح.